بعد مرور أيام على محاولة الانقلاب في تركيا، أسئلة عديدة تدور في خُلد العالم أجمع: من وراءها؟ وهل حقاً هم جماعة غولن، أم الضباط الموالون للإنجليز في الجيش؟ وما هو المتوقَّع بعد ذلك؟

من المعروف تاريخياً أن رجال الإنجليز كانوا نواة الجيش التركي، ثم حاولت أميركا اختراقه منذ عهد الرئيس الثامن لتركيا تورغوت أوزال، لكنها لم تنجح، فعمدت إلى قوى الشرطة والأمن الداخلي، ثم ركّزت على اختراق الجيش في عهد أردوغان، ونجحت إلى حد ما، لكن قوى الإنجليز ما زالت موجودة، ومنهم الضباط الذين قاموا بالمحاولة.

بعد المتابعة لما حدث، فإن الراجح أن الذين قاموا بمحاولة الانقلاب هم ضباط موالون للإنجليز كانوا في مرمى الخطر، وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: لأن مجلس الشورى العسكري التركي يجتمع سنوياً في أواخر شهر تموز، أو أوائل الشهر المقبل آب، وصلاحيات هذا المجلس كثيرة، وذات أهمية في الجيش، فهو يُعقد برئاسة رئيس مجلس الوزراء في مقر هيئة الأركان في أنقرة، ويحضره وزير الدفاع ورئيس الأركان وقائد القوات البرية وقائد القوات الجوية وقائد قوات البحرية، وقائد قوات الدرك والنائب الثاني لرئيس هيئة الأركان.. ثم إن أعضاء مجلس الشورى هم من كبار القادة العسكريين، ويتم البحث في هذا الاجتماع الدوري لمجلس الشورى: ترقيات أصحاب الرتب العسكرية العليا، وتمديد فترة عمل بعض القادة، والأمور المتعلقة بالإحالة إلى المعاش، وحالات العسكريين الذين يتم فصلهم بسبب مخالفتهم للانضباط أو المبادئ الأخلاقية، بالإضافة إلى عدد من الموضوعات المتعلقة بالقوات المسلحة التركية.. ويستمر الاجتماع أياماً عدة، ويعلن قراراته بعد عرضها على رئيس الجمهورية، وعادة ما تنتهي مع اجتماع مجلس الشورى المهام الوظيفية لعدد من قادة الجيوش وغيرهم من الرتب الكبيرة؛ فمثلاً في الاجتماع السابق في 2015/8/2، كان من بين الذين انتهت وظائفهم في ذلك الاجتماع قائد القوات الجوية آنذاك؛ اكن أوزتورك، الذي تناقلت الأنباء أنه على رأس المحاولة الانقلابية الحالية، وغيره من القادة.

ويبدو أن الضباط الذين قاموا بالمحاولة كانوا يعلمون - أو تسرّب إليهم - أن إجراءات ستتخذ ضدهم في اجتماع مجلس الشورى، تُعرِّض بقاءهم في الجيش على رأس عملهم للخطر، فقاموا بهذه المحاولة كعمل استباقي قبل انعقاد المجلس.

وهنا يصف المراقبون الضباط الذين قاموا بمحاولة الانقلاب بـ"المغامرين"، لأن تدبُّر المحاولة لا يرجّح أن الإنجليز هم الذين وضعوا الخطة، بل الأرجح أن الضباط هم من وضع الخطة، وأن الإنجليز تركوها لهم، لكن هذا لا يعني خلوّها من "دهاء" الإنجليز، فمثلا ركّز الانقلابيون في بيانهم على العلمانية، وهذا خطأ فادح، لأن المشاعر الإسلامية تنتشر بين الكثير من الأتراك حالياً، فذكر العلمانية استفزاز لهم، ويذكِّرهم بحكم مصطفى كمال أتاتورك وأتباعه، وكيف كانوا في حالة مستفزة للإسلام والمسلمين، ما جعلهم ينزلون إلى الشارع كرهاً لأتباع مصطفى كمال أكثر مما هو حباً في أردوغان.. كما أن الانقلابيين لم يخططوا بإحكام في الدقائق الأولى لاعتقال السياسيين والحكام، أي الرئيس والحكومة قبل إعلان الانقلاب، بل أُعلن الانقلاب وهم في مواقعهم، فكانت أفعالهم أقرب إلى الشغب وانفعال الغضب دون قاعدة جماهيرية، ولا حتى قمة انقلابية منظّمة.

ثانياً: توجيه التهمة إلى الداعية فتح الله غولن، الأميركي الهوي، ليس دقيقاً على الأرجح، فجماعة غولن أقرب إلى الأعمال الاجتماعية المدنية والقضائية، وليس لها القدرة العسكرية على القيام بانقلاب دون دعم استعماري. ثم إن هذه الجماعة تأتمر بأمر أميركا فلا تتحرك دون إذنها، وواشنطن ترى في أردوغان الرجل الأقدر على خدمة مصالحها، خصوصاً في الوقت الحالي، فتركيا آخر سهم لأميركا في موضوع الحل السوري، وقد قدّم لها أردوغان خدمة لا يستطيعها غيره في هذه الظروف؛ وذلك بالاستعداد لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، حيث أعلن رئيس الوزراء التركي قبل أيام قليلة على محاولة الانقلاب أن "تركيا ستعيد علاقاتها مع سورية إلى طبيعتها". أما غولن بالنسبة لأميركا فهو خط احتياطي عند اللزوم، فمثلاً دعم غولن "حزب العدالة" في ثلاثة انتخابات منذ 2002 وحتى 2013؛ عندما بدأ الخلاف بينهما بإثارة مشاكل الفساد عند بعض أعوان أردوغان، وكذلك عندما أُغلقت شبكة "درشان" التابعة لجماعة غولن، فهو احتياط إذا لزم، والدول الاستعمارية لا يضرها وجود أكثر من حليف - "أداة" في مكان واحد، ولا يضرها أيضاً أن يتنازعا ويتنافسا، بل ويتقاتلا، وهي تدعم من غلب.

هذا الكلام لا يمنع أن يكون قد شارك أفراد من جماعة غولن بصفتهم الفردية، خصوصاً من القضاة، كردّ فعل على شدة المضايقات التي تحدث لهم من أردوغان.

ثالثاً: أردوغان يدرك أن الإنجليز لهم قوة في الجيش، حتى وإن تناقصت، وأن جماعة الإنجليز في الجيش هم وراء محاولة الانقلاب، لكنّه يوجه الاتهام إلى غولن لأن الحديث عن رجال الإنجليز في الجيش هو إعلاء لشأنهم، والقضاء عليهم دون ذكرهم تهوين لشأنهم، أما غولن فليس بذي شأن كبير مثلهم، وأردوغان يريد القضاء على رجال الإنجليز دون ضجيج، أي بالتكتم، كي لا يبرزوا ولا يشكّلوا تكتلاً حولهم، وفي المقابل يريد إضعاف منافسه بالضجيج، لأن جماعة غولن ليست بذات القوة التي لرجال الإنجليز.

رابعاً: أما ما هو المتوقع بعد ذلك، فإن الضجة التي حدثت حول محاولة الانقلاب ستؤثر في الجانبين:

أ‌- أميركا وأردوغان سيبذلان وسعهما لاستغلال ما حدث للقيام بأعمال جادة لإنهاء قوى الإنجليز في الجيش، أو على الأقل تخفيف أثرهم إلى الحد الأدنى، فهما ضخّما حجم المحاولة ليكون مبرراً لملاحقة رجال الإنجليز بشدة، وبطبيعة الحال سيستغلها أردوغان في إضعاف منافسه غولن ما أمكنه ذلك، وضمن الحدود التي تسمح له أميركا بها، وما ظهر من اعتقالات بالآلاف يدل على ذلك.

ب‌- أما بريطانيا، فإن ما حدث محسوب عليها، حتى وإن لم تكن هي بـ"دهائها" قد وضعت الخطة وأساليبها ووسائلها بل تركت ذلك لرجالها، ولذلك فلا يُستبعد أن تراقب الوضع عن كثب لتقوم بردّة فعل تعيد إلى رجالها شيئاً من الهيبة، وهذا ما تتوقعه أميركا وأردوغان، ولذلك عقد أوباما اجتماعاً لمجلس الأمن القومي لبحث ما حدث في تركيا، وكأنه حدث في صميم الأمن القومي الأميركي؛ تحسّباً لما قد يكون من ردات الفعل الدولية، وكذلك فإن أردوغان يوصي الناس بالمكوث في الميادين والمطارات والمساجد لقطع الطريق على أي رد فعل من رجال الإنجليز والموالين لهم.

في المحصلة، فإن التطورات التركية لا تقف عند فشل المحاولة الانقلابية أو نجاح أردوغان في السيطرة على الأوضاع، فثمة جمر كثير تحت رماد المستجدات التركية، التي أكثر ما يُخشى منها أن تدخل تركيا في أزمات مفتوحة على كل الاحتمالات.