الوضع الداخلي التركي مهتز، لا استقرار في حكم الرئيس رجب طيب اردوغان قبيل وبعد محاولة الانقلاب، هي ازمة تعد الاكبر في بنيان الدولة منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى، وتحديدا عام 1922، تاريخ تأسيس جمهورية تركيا الحديثة على يد مصطفى اتاتورك، ملغي الخلافة الاسلامية، ومؤسس الدولة العلمانية.

منذ ساعة "اللاانقلاب" كما وصفه كثيرون، والصورة مرعبة عند الرئيس التركي، هو تمكن حتى الان من الابتعاد عن الخطر الاكبر، يتقلب على نار الانقلاب، يسابق الزمن لدفن اي خطر يلوح بالافق القريب والبعيد، اطبق على مفاصل السلطات كافة، افرغ الدولة من مناوئيه باختلاف درجة خطورتهم، متخذا الديمقراطية وسيادة تركيا قيّد حركة الجيش، عزل الاف الجنود والضباط، رقى ضباطا قيل انهم موالون له تماما، حصر سلطة رئاسة الاركان وادارة المخابرات باشرافه المباشر، وها هو يتحضر لمقصلة الاعدامات.

اتاتورك فرض العلمانية بالقوة، نجح بالحفاظ على القومية التركية، الى ان اتى الاسلاميون وبمن فيهم الصديق القديم لاردوغان العدو اللدود له حاليا الداعية فتح الله غولن، وصل اردوغان على راس السلطة وبعد هذه السنوات كلها اعاد التناقض بين الدين والعلمانية، احدث شرخا في هوية تركيا، ومتمترسا وراء الديمقراطية يستعد لتنفيذ مشروعه الذي راكمه على مدى سنوات وينجز الجزء الاكبر منه خلال ايام.

مشهد الجنود الاتراك وهم رافعو الايدي، مطأطؤو الرؤوس على جسر البوسفور وغيره من مراكز التحرك لن يغيب عن الذاكرة التركية، انتفاضة الجيش هذه ولو انها اتت من قيادات تعد وسطى فيه، عكست بالتاكيد جزءا من اعتراض اوسع، سواء في المؤسسة العسكرية اوداخل المجتمع التركي على النهج الذي يتبعه اردوغان.

لا ثقة متماهية بين الرئيس والجيش، ربما ما حصل سيكون محاولة الجيش الاخيرة للحفاظ على تركة واثار الكمالية الاتاتوركية بعد اخر محاولة انقلاب، اجراءات اردوغان المضادة هذه وان استمرت على وتيرتها دون رادع وهي مستمرة حاليا، ستمنع الجيش من اي تحرك مستقبلي وسيتبع بخياراته كافة لسلطة رئيس الجمهورية.

ها هو حزب العدالة والتنمية يتحرك لتبديل اتجاهاته تدريجا من حزب ديني ديمقراطي الى حزب ديني استبدادي، يقضي على معارضيه تحت مظلة الحفاظ على الدولة، معارضوه مترددون، خوف اول على الديمقراطية ورفض اي دور سياسي للجيش، وخوف ثان على مواجهة غير مضمونة النتائج مع اردوغان باجهزته الامنية التي تشكل جيشا موازيا للجيش التركي، هاجس هذه الاحزاب كما قسم كبير من الاتراك هو منع اي تصادم بين الجيش والتيارات الاسلامية الموالية للعدالة والتنمية.

سيعزز اردوغان بعد نشوة "الانتصار" سلطته في الداخل، بالتاكيد سيدفع بالجيش نحو تكثيف عملياته العسكرية في المناطق الكردية جنوب البلاد، فاصوات الانتقادات من داخل الجيش على خلفية مقتل اكثر من خمسمئة جندي في اقل من سنة على بدء الحملات ضد حزب العمال الكردستاني ستخفت نهائيا، فالتلويح بالمشاركة بالانقلاب سيبقى جاهزا في اي وقت.

يصف احدهم اردوغان بالمفترس المتربص الذي نجح بالاتقضاض على خصومه الداخليين، يتوعد اصدقاءه المفترضين بعد الانتقادات الغربية وشبه العزلة الدولية، حيث غاب اي مسؤول اوروبي او اميركي عن زيارة انقرة بعد محاولة الانقلاب.

يحكى اليوم عن خيارات وسياسات جديدة قد يتخذها الرئيس التركي حيال علاقاته مع واشنطن وموسكو وبالاقليم، اكثر السيناريوهات المطروحة احتمال جنوحه نحو محور موسكو- طهران- دمشق، خصوصا تجاه روسيا، فعلى رغم مخاوفها من صعود التيارات الاسلامية ومنها الاخوانية الى الحكم في تركيا، تتطلع موسكو ايضا الى علاقات انقرة بتتار القرم، وتاثيرها التاريخي على الجمهوريات الاسلامية المحاذية لروسيا، وهي ملفات لا تقل اهمية عن مصالحها في سوريا.

صعود الاسلاميين في تركيا لن يريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنه سيحاول انتزاع مكاسب من اردوغان خلال لقائهما المرتقب، وعلى الارجح فان نتائج مباحثاتهما ومسار الاحداث المقبلة سيكشف جزءا كبيرا عن حقيقة ما حصل وقد يحصل في تركيا والاقليم.