لم تكد عجلة تحرير مناطق عراقية من الإرهاب المستوطن أرض العراق، تنطلق بعد وضعها على السكة الصحيحة، حتى شهد العراق مفاجأة تحت قبة البرلمان، ما طرح أسئلة بحجم الأزمة المتعددة الأوجه في بلاد الرافدين، التي يسعى الأميركيون لتجزئتها وتشتيت قدراتها.

الجلسة التي كانت مخصَّصة لاستجواب وزير الدفاع خالد العبيدي، الذي ينال رضا أطراف أميركية فاعلة في العراق، تحوّلت إلى جلسة اتهامية بحق رئيس البرلمان سليم الجبوري، الذي يُعتبر أحد أذرع الأميركيين أيضاً، عبر قطر، واثنين من النواب ذات الطينة نفسها التي جُبل عليها الجبوري، وفحوى الاتهام محاولة رشوة وزير الدفاع بُعيد تشكيل الحكومة قبل أكثر من سنة، لإعطائهم عقود إطعام الجيش مقابل إفشال استجوابه في البرلمان، وقضايا فساد أخرى.. فيما كان الرد من الجهات المتهمة بأن العبيدي يحاول الهروب من الاستجواب لأنه متورّط حتى أذنيه في الفساد أيضاً، وهو أرسل ضابطاً برتبة لواء للمساومة على تأجيل جلسة الاستجواب لمدة أسبوع فقط، مقابل مليون دولار عرضها على النائب عالية نصيف، التي كشفت أن وزير الدفاع يعلم بخطورة الملفات التي سيُتستجوَب بشأنها، فقام بحاولة خلط أوراق، لاسيما أنه ينتمي إلى منظومة الفساد، ولديها أدلة عملت أكثر من سنة على جمعها، ليس أقلها إناطة مناصب عليا وحساسة في وزارة الدفاع لشخصيات "بعثية"، ومن المعروف أن "البعثيين" الآن تموّلهم المملكة العربية السعودية، لتنفيذ عمليات تخريب ممنهَجة في العراق، وإدارة قسم كبير من العمليات الإرهابية.

هذه الاتهامات التي تشكّلت لجان تحقيق ونزاهة بشأنها، أشعلت الطبقة السياسية في العراق بكل تلاوينها السياسية والطائفية، لاسيما أن المتهمين جميعهم من معلف سياسي واحد، الأمر الذي تصاعدت على خلفيته المطالبة من الكتل البرلمانية ذات الصلة باستقالة رئيس المجلس المتهَم سليم الجبوري، والبعض ذهب إلى المطالبة بحل البرلمان وتشكيل حكومة طوارئ، لأن الطبقة السياسية فاسدة برمّتها، وإجراء انتخابات نيابية مبكّرة، فيما كانت مناورة رئيس البرلمان تأخذ طريقها إلى التبنّي لتبرئته، وهو الذي قال إنه لن يرتقي إلى كرسي رئاسة المجلس مجدداً قبل أن يبتّ القضاء بإنصافه.

المفاجأة الأخرى كانت في الخدمة السريعة للقضاء، الذي بتّ سريعاَ ودون الاستماع أو الوقوف على الوثائق، بحفظ القضية ضد الجبوري، لـ"عدم كفاية الدليل"، الأمر الذي أهاج بدوره الطبقة السياسية، لاسيما أن قضية تشويه سمعة رُفعت على وزير الدفاع الذي أشعل الفتيل.

لم يكن الأميركيون بعيدين عن محاولة إخراج الجميع من الورطة، بعد أن كانوا بأنفسهم وراء إشعال النار بين أبناء الجلدة الواحدة. ولا يشك العراقيون في أن الأميركيين هم من أدار اللعبة من ألفها، ومستمرون في إخراجها إلى يائها، وليست إثارة عملية الفساد التي يقاسي منها العراقيون جميعاً منذ إرساء الفساد كثقافة عامة على يدي بول بريمر، في هذا الوقت إلا لمزيد من تمزيق العراقيين، وهم الذين بدأوا العمل يداً بيَد لاستكمال تحرير بقية بلادهم، خصوصاً الموصل من "داعش"، ولدى الغالبية العظمى من الشعب العراقي قناعة بأن الأميركيين يريدون تأخير عملية التحرير، وهم ضربوا عصفورين بحجر واحد، بعد أن فشلوا في منع "الحشد الشعبي" والفصائل المقاومة الإسلامية من المشاركة في تحرير العديد من المدن والبلدات العراقية، تحديداً الفلوجة، نجحوا في تأخير تحرير الموصل، وعقدوا اتفاقات ثنائية عسكرية وأمنية مع إقليم كردستان دون العودة إلى الحكومة المركزية في بغداد، لا بل تجاهلوها، وأوجدوا شرخاً بين المكونات السُّنية السياسية، على أمل ان يتزاحم الجميع لتقديم الولاء للإدارة الاميركية، وإلا العودة إلى فوضى أعمّ، وبدأ الأميركيون يؤهّلون الميدان لها من خلال إرسال كل فترة مئات الجنود دون اتفاق مع حكومة العراق.