العفن ليس في اكوام النفايات، بل في السياسة ايضاً، في هذه السياسة التي ينتهجها اطراف السلطة، والتي افضت الى مزيد من التدهور على مستوى ادارة الشأن العام، الى فراغ في كل ما يخص مصالح الدولة ومواطنيها. لكن هذا الفراغ لا يمكن ان يطال الغرف السوداء، اي غرف المحاصصة واوكار الفساد.

على هذا المنوال الذي شهدناه في اليومين الماضيين انفرط عقد طاولة الحوار بعدما كاد حلف "المقاومة" ينفرط على الطاولة. انفجرت بين رئيس التيار الوطني الحر ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وقيل ان ما ورد من عبارات لا يليق بطاولة حوار يفترض أن أركانها هم نخبة السياسيين في البلد. فرنجية قال ما قال في باسيل والاخير لم يكن بخيلا في توصيف ما عدا تياره من المسيحيين. اما الرئيس نبيه بري فلا شك انه بدا خلال المشادة منطبقا عليه المثل: "قاضي الولاد شنق حالو". فعلق الحوار ولكن على طريقته البرّية ايضا، مشددا على انه لن يعطي باسيل شرف فرط الحوار.

المشهد كان اكثر من كاريكاتوري، فبعد هذه الجلسة خرج فرنجية على عادته. فهو لا يقبل الضيم وراح يذم بآلة الحساب التي يعتمدها التيار الوطني الحر في حساب من الاكثر مسيحية او الاكثر تمثيلا للمسيحيين. فيما الوزير باسيل بدا كطفل ابتهج بلعبة جديدة اسمها الميثاقية. لعبة يسهل عجنها واعادة رسمها بما يتناسب مع رغبة اليوم. اما غدا فيوم آخر ولعبة اخرى.

والوزير فرنجية لم تسمح له مبدئيته ان يشارك في جلسة مجلس الوزراء امس، فغاب ممثله الوزير ريمون عريجي عن تضامنا مع وزراء التيار الوطني الحر. لكن مقتضى التضامن ان يشرح الوزير فرنجية ماذا يريد من هذا التضامن، والافضل في هذه الحال ان يعمد الى التنازل عن ترشيحه لرئاسة الجمهورية كتعبير ارقى وان يكون اكثر كرماً عبر التنازل للمرشح العماد ميشال عون.

العفن السياسي في مستويات باتت تنذر بمخاطر تلوث شامل. مادة الزئبق التي زادت بشكل كبير في اكوام نفايات دون طمر او فرز، كما شرحها الوزير اكرم شهيب قبل ايام، ازدادت ايضا نسبتها في المواقف السياسية، من طاولة الحوار الى الحكومة الى المنابر التي باتت نهبا للمزايدات السياسية والطائفية والمذهبية. ودائما باسم الميثاقية التي لا يستقيم معناها الا في مدى ملائمتها للحساب الحزبي او الشخصي.

هي باختصار معركة نفوذ وصراع مسيحي مسيحي. لكن ليس لحساب رؤية سياسية تعيد تثبيت مشروع الدولة ودستورها، بل معركة سياسية محكومة بمواقف زئبقية غايتها مصالح سياسية حزبية او شخصية. هي معركة تحسين مواقع في الساحة المسيحية تحت ظلال دولة حزب الله التي باتت تشكل في هذه الساحة مصدر الحماية او بالاحرى مصدر الاستقواء، خصوصا في داخل هذه الساحة المسيحية كما كان حال الوصاية السورية التي رجحت فريقا على آخر، وغيبت حزبا لصالح نفوذ حزب آخر.

إدّعاء الميثاقية وحمايتها هو معركة وهمية يحاول بعض المسيحيين ايهام انفسهم بأنهم يخوضونها من أجل الشراكة. تلك التي لا تزيد عن تعيين موظف هنا او تحسين التمثيل الوزاري او النيابي هناك. فيما السؤال الجوهري هو: هل ان ازمة لبنان تكمن في عدم تحسين شروط التمثيل الطائفي لهذه الطائفة او تلك؟ ام ان الأزمة الفعلية تكمن في ان الذي يدعو لاحترام الميثاقية هل يعتبر نفسه اصلاً شريكا مسيحيا فعليا في السياسة الخارجية للبنان على سبيل المثال لا الحصر.

السؤال هو: هل في لبنان شراكة بين اركان السلطة في شؤون استراتيجية تتصل بالسياسة الخارجية، باستراتيجية لبنان الدفاعية في السياسات الاقليمية؟ الحكومة فيها طرف حاكم وآخرون تابعون او مستسلمون. الطرف الحاكم واجبةٌ طاعته ولا يجرؤ احد على اتهامه في كل خياراته الاقليمية والعسكرية والامنية، اتهامه انه مسّ الميثاق لا سمح الله، بل كلما استباح الدولة وشروطها وقواعدها... صفق له الباكون اليوم على الميثاق.