في ظل التطورات القائمة على الساحة السورية، لا سيما بعد الغارة الأميركية التي إستهدفت مواقع ​الجيش السوري​ في ​جبل الثردة​ في ​دير الزور​، وظهور أمير تنظيم "​فتح الشام​" في إطلالة تلفزيونية جديدة، الكثير من الأسئلة من المفترض أن تطرح، حول إمكانية أن تكون موسكو قد وقعت في "فخ" نصبته لها واشنطن بعناية، يؤدي إلى دخولها في حرب إستنزاف طويلة مع مختلف الفصائل المعارضة، في مقابل حصر معارك الولايات المتحدة بالمناطق التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" الإرهابي.

نقطة الإنطلاق الأساسية في هذه المعادلة، ينبغي أن تكون من قراءة التصور العسكري الأميركي لسوريا، التي تعتبرها ساحة من ساحات إستنزاف ​روسيا​، في المرحلة الراهنة، لا سيما أن واشنطن لا تشارك في الحرب الدائرة هناك بصورة مباشرة، بل تكتفي بتنفيذ ضربات جوية بالإضافة إلى إرسال عشرات المستشارين، على عكس ما هو الواقع من جانب موسكو، التي تضع كل ثقلها في هذه المعركة التي تريد من خلالها العودة بقوة إلى الساحة العالمية.

على مدى الأشهر السابقة، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك حقيقة هذا الواقع، وهو من أجل ذلك تحدث في بداية العمليات العسكرية في سوريا عن أن عمرها لن يتجاوز الأشهر القليلة، وذهب إلى الدعوة إلى إطلاق المسار السياسي بالتزامن، بهدف التوصل إلى تسوية تمنع تكرار التجربة الأفغانية، التي لا تزال عالقة في أذهان المؤسستين السياسية والعسكرية في موسكو، الأمر الذي يُفسر الحرص الدائم على إنجاح أي إتفاق هدنة مهما كان الثمن، لكن على أرض الواقع التفاهمات مع واشنطن لم تساهم في تبديل المشهد.

من حيث المبدأ، نجحت روسيا في تحقيق بعض الأهداف السياسية من تدخلها العسكري، على رأسها منع إسقاط الدولة السورية والحفاظ على مناطق نفوذ أساسية، في مقابل مناطق نفوذ أخرى، في الشمال والشرق السوري، نجحت الولايات المتحدة في السيطرة عليها بطريقة أو بأخرى، لكن المفارقة هي في واقع هذه المناطق، التي من المفترض أن يكون الإتفاق، بين كل من وزيري خارجية البلدين جون كيري وسيرغي لافروف تم بناء عليها.

في هذا السياق، يبدو أن مناطق النفوذ الأميركية ستكون معاركها محصورة بتنظيم "داعش" الإرهابي، عبر الوكلاء من الحلفاء، سواء كانوا من الفصائل المدعومة من ​الحكومة التركية​ أو من "​قوات سوريا الديمقراطية​"، ذات الأغلبية الكردية، أو من بعض العشائر العربية التي إختارت التعاون مع واشنطن، وتعمل الولايات المتحدة على ترتيب الأوضاع في هذه الساحة بشكل يمنع التصادم بين القوى البرية التي تبقى تحت سيطرتها، في حين تحصر عملها بتأمين الغطاء الجوي لها، في حين أن مناطق النفوذ الروسية ستكون أمام مواجهة كبرى مع مختلف الفصائل الآخرى، مع ما يحمله ذلك من خطوط حمراء، لا سيما في ظل الفشل في فصل "المعتدلة" منها عن جبهة "النصرة"، الأمر الذي كان من المفترض أن يكون من مهام الجانب الأميركي.

إنطلاقاً من ذلك، ينبغي فهم التطورات الأخيرة التي ظهرت في الأيام الأخيرة، حيث خرج أمير جبهة "فتح الشام" ​أبو محمد الجولاني​، في إطلالة تلفزيونية، يتوعد بأن حصار ​مدينة حلب​ لن يستمر، حيث تجري الإستعدادات لإعادة تحريك هذه الجبهة من قبل "النصرة" بالتعاون مع باقي الفصائل، الأمر الذي سيدفع المحور الذي تقوده واشنطن إلى وضع كل ثقله فيها، في وقت كان من المتوقع أن تعمد الولايات المتحدة إلى تهدئة الوضع فيها، عبر دفع الفصائل المتعاونة معها إلى "عزل" أنصار "القاعدة".

بالتزامن، جاءت الضربة الأميركية لمواقع الجيش السوري في دير الزور، في مؤشر لرغبة واشنطن بالعودة إلى المخططات السابقة، القاضية بإفراغ المناطق الشرقية من أي تواجد لحكومة دمشق، وهي كانت سعت إلى ذلك، قبل فترة قصيرة، عبر دفع حلفائها في "قوات سوريا الديمقراطية" إلى فتح مواجهة مع عناصر الجيش السوري في الحسكة، وبالتالي لا شيء يمنع تلاقي المصالح مع "داعش" على هذا الصعيد، حيث كان من المفترض أن يستغل التنظيم الإرهابي الغارة "الخاطئة"، لإطباق سيطرته على كامل دير الزور، تمهيداً لتحريرها لاحقاً من جانب حلفاء واشنطن، على قاعدة إدارتها من قبل من يحررها، كما يحصل في أماكن أخرى من سوريا والعراق، وبالتالي تحقيق هدفها الإستراتيجي عبر السيطرة على المناطق الحدودية السورية العراقية.

قبل ذلك، كانت تل أبيب قد دخلت على خط الحرب، عبر فتح جبهة في الجنوب، تدرك جيداً أن دمشق وطهران لن تقبلا التخلي عنها، وهي لم تتردد في إستخدام ورقة جبهة "النصرة"، التي كانت تقود الهجوم الذي قامت به الفصائل المعارضة على أرض الواقع، وبالتالي لا يجب إستغراب أن تكون فعلاً الولايات المتحدة قد بادرت إلى الإستعانة بورقة "داعش" من جديد، لا سيما أن الوقائع أثبتت على مر السنوات السابقة أن التنظيمات الإرهابية ليست إلا أدوات، تنطلق الحرب عليها بعد إنتهاء دورها.

في المحصلة، تبدو مهمة واشنطن بالسيطرة على مناطق نفوذها أسهل من مهمة موسكو، خصوصاً أن الأخيرة لم تربح حتى الساعة رأس "النصرة"، التي لا تزال تحظى بالحماية والغطاء من قبل العديد من الجهات، وهو ما ظهر عبر تمسك أغلب الفصائل المعارضة بالتحالف معها.