توازياً مع الأزمات الكثيرة والمتشعّبة التي يتخبّط فيها "تيار المستقبل" ورئيسه سعد الحريري منذ فترةٍ ليست بقصيرة، والتي يُقال أنّها تجلّت بإرجائه المؤتمر العام الذي كان مقرّراً الشهر المقبل بذريعة "الأسباب اللوجستية"، يتعرّض التيّار منذ أيامٍ لما يعتبرها قياديون فيه حملة منظّمة وغير بريئة قائمة على الشائعات أولاً وأخيراً، وهم لا يتردّدون بوصفها بـ"الحرب النفسية".
تارةً يُقال أنّ الحريري وافق على انتخاب رئيس تكتل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، وأنّ مدير مكتبه نادر الحريري اتّصل بـ"الجنرال" وابلغه بهذا القرار، وتارةً أخرى يُقال أنّ لقاء "سرياً" جمع الحريري ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل في باريس، على غرار ذلك اللقاء الذي كان جمع الحريري برئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية قبيل ترشيح الأخير لرئاسة الجمهورية، وبين الإثنين يُحكى عن تجميد نوابٍ "مستقبليين" لعضويّتهم في الكتلة "الزرقاء"، والتحاق آخرين بتجمّعات "الخصوم".
وإذا كان "المستقبل" استنفر في الأيام الماضية لنفي كلّ ما يُقال همسًا وعلنًا، يبقى السؤال، من يقف فعليًا وراء هذه الموجة؟ وهل في الأمر "قطبة مخفية" طالما أنّها لا تستهدف سوى "المستقبل"؟!
"نظرية المؤامرة"؟
ليست المرّة الأولى التي يجد "المستقبليّون" فيها أنفسهم مضطرين لتوضيح خبرٍ ما ونفي آخر، ولكنّها قد تكون من المرّات النادرة التي يجدون فيها أنفسهم عُرضةً للشائعات كيفما اتّجهوا ومالوا، لدرجةٍ دفعتهم لتكثيف إطلالاتهم الإعلاميّة خلال الأيام الماضية فقط لنفي ما يُنسَب لهم زورًا، كما يقولون.
وعلى الرغم من أنّهم لا يؤمنون بـ"نظرية المؤامرة" التي يتهمون خصومهم بـ"فبركتها" كلما حُشِروا في الزاوية، إلا أنّ "المستقبليين" مقتنعون بأنّ التزامن والترابط بين كلّ الشائعات التي تطالهم لا يمكن أن يكون "محض صدفة"، ولذلك يتحدّثون عن "غرفة عمليّات" معروفة الخلفيّات والأهداف تقف وراءه. وإذا كان كثيرٌ من "المستقبليين" ينأون بأنفسهم عن "لعبة الاتهامات" هذه، فإنّ رصد من يتبنّاها ليس في المقابل عمليّة شاقّة، إذ يجاهر العديد من نواب "المستقبل" بأنّ من يقف خلف هذه الشائعات يعلن عن نفسه بشكلٍ "فاضح".
ويذكّر أحد هؤلاء النواب بأنّ خبر الاتصال "المزعوم" الذي أجراه نادر الحريري بالعماد عون وحمّله فيه "بشرى" الموافقة على انتخابه رئيسًا نُسِب يومها إلى "مصدرٍ مقرّبٍ من الرابية"، وأنّ كاتبه حين "اعتذر" برّر ما فعله بالقول أنّه وقع "ضحيّة" مصدره، إلا أنّه لم يقل أنّ توصيفه للمصدر لم يكن دقيقاً. أما الحملة التي شنّها "التيار" بعد ذلك بواسطة إعلامه على المضلّلين الذين ينسبون إلى الرابية ما ليس صادراً عنها، فشكّلت بحسب هذا النائب "دليلاً إضافياً" على الوقوف خلف الخبر، "وإلا فلا مبرّر لحماستهم المفرطة في تكذيب خبرٍ، يفترض أن يخدم أجندتهم ويضرّ خصومهم".
"الخطة باء"!
ولكن، إذا كانت هذه النظرية صحيحة، فما هي المكاسب التي يمكن أن يحقّقها "التيار"، أو المتعاطفون معه، من وراء بثّ مثل هذه "الشائعات"؟
"هم يحاولون الضغط علينا ووضعنا أمام الأمر الواقع"، يقول أكثر من "مستقبليّ" بلهجةٍ واثقة. ويشير هؤلاء إلى أنّ ضغط "العونيين" في هذا السياق ليس جديدًا، وهم يحاولون بشتّى الطرق إقناع "المستقبل" بالسير بانتخاب عون رئيسًا، تارةً عبر "وسطاء"، على رأسهم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، وطوراً عبر "إغراءات" يتولّى "حزب الله" تقديمها، لجهة ضمان وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة. وإذا كانت هذه الاستراتيجيات تصبّ في خانة "الترغيب"، يستنتج "المستقبليّون" أنّ هناك من قرّر اللجوء إلى "الخطة باء" القائمة على "الترهيب"، متوهّمًا أنّها قد تنفع.
وعلى الرغم من "التلاقي" بينهم وبين رئيس المجلس النيابي نبيه بري، خصوصًا في معارضة عون، إلا أنّ "المستقبليين" لم يرتاحوا لإحدى الرسائل التي تضمّنها تصريحه الأخير، والتي قال فيها أنّ عون يصبح رئيساً فوراً إذا وافق عليه الحريري. وهم، إذ يضعون هذا الأمر أيضاً في سياق "الضغوط" عليهم، يقولونها بحزم، "موقفنا واضح وحاسم، وإذا لم نكن قد غيّرناه بالترغيب، فإنّنا بالتأكيد لن نغيّره بالترهيب. عليهم أن يفهموا ذلك، وأن يبحثوا في مكانٍ آخر".
خرقٌ داخلي؟!
ولكن، في مقابل هذه الثقة "المستقبلية"، علامات استفهامٍ كثيرة تُطرَح، فلماذا تكاد تكون الشائعات حكراً على "المستقبل" دون غيره من معارضي عون، وفي مقدّمهم بري على سبيل المثال؟ وإذا كان صحيحاً أنّ "التيار" يسعى لانتزاع موافقة الحريري على انتخاب عون رئيساً، فكيف ستنفعه موافقة "مزعومة" عبر وسائل الإعلام؟ وألا يدرك أنّه "المتضرّر الأكبر" من نشر مثل هذه الأخبار، التي من شأنها أن تثني الحريري عن دعمه، إذا كان أصلاً ينوي ذلك؟
كلّها أسئلة يطرحها خصوم "المستقبل" في مواجهة "الحملة المضادة" التي يقوم بها الأخير، مضيفين إليها تساؤلاتٍ أخرى حول خلفيّات بعض "الشائعات" التي لا علاقة لها بموقف الحريري من انتخاب عون بشكلٍ مباشر، كخبر تجميد عضوية النائب أحمد فتفت في كتلة "المستقبل" والتحاقه بالوزير أشرف ريفي، أو مساعي نواب آخرين، من بينهم النائبان ميشال فرعون وسيرج طورسركيسيان، للالتحاق بالركب العوني-القواتي.
وفي حين يتوقف هؤلاء عند كون الكثير من "الشائعات" التي يشكو منها "المستقبل" وردت في وسائل إعلام خليجية مصنّفة في الغالب على أنّها "صديقة" للتيار "الأزرق" لا لخصومه، الأمر الذي له ما يكفي من دلالات ومعانٍ، فهم يردّون التهمة لمطلقيها، غامزين من قناة التباينات التي لم تعد خافية على أحد داخل الكتلة "الزرقاء"، ملمّحين لإمكانية أن يكون من يقف وراءها من داخل "المستقبل" لغايةٍ في نفس يعقوب.
وفي هذا السياق، تتعدّد "السيناريوهات" التي يمكن البناء عليها، ففي كتلة "المستقبل"، نوابٌ لا يرون الخلاص إلا بانتخاب عون رئيسًا، وهم يعملون لإقناع قيادتهم بذلك بشتّى الطرق، وأسماء هؤلاء باتت معروفة للقاصي والداني، وبالتالي إذا صحّت النظرية "المستقبلية"، فلا شيء يمنع "تورّط" هؤلاء. ولكن، في الكتلة نفسها، نوابٌ آخرون يعملون بكلّ ما أوتوا من قوة لـ"تخريب" أيّ مسعى لتبني ترشيح عون للرئاسة، وهم يعتبرون أنّ مثل هذا الخيار سينهي الكتلة "الزرقاء" عن بكرة أبيها، علمًا أنّ بعضهم لم يستوعب حتى اللحظة ترشيح النائب سليمان فرنجية نفسه، ولذلك يعتقد هؤلاء أنّ كلّ الطرق "مشروعة" لمنع ما يسمّونه بـ"الانتحار السياسي".
هكذا يكون الردّ!
قد يكون صحيحًا أنّ كتلة "المستقبل" تتعرّض للكثير من الضغوط هذه الفترة، من الأصدقاء قبل الخصوم، على خلفية الملفّ الرئاسي، خصوصًا بعد تصوير التيّار وكأنّه مسؤولٌ عن إطالة أمد الفراغ الرئاسي نتيجة رفض انتخاب عون رئيساً.
وقد يكون صحيحاً أنّ "الشائعات" التي تطال التيّار ليست بريئة، ولكنّ الأكيد أنّ حسم هوية من يقف وراءها قد لا يكون سهلا، وقد يكون الأهمّ من توزيعها مجاناً، الردّ عليها بمعالجة الأزمات الداخلية التي تكاد تطيح بالتيار "الأزرق"، وهنا فقط تنفع المواجهة...