تتضارب الآراء بشأن ما يحصل حاليًا من حركة سياسيّة مُرتبطة بالملفّ الرئاسي في لبنان، حيث تُوجد نظريّات عدّة مُتناقضة تُلخّص كل ما يُقال في هذا الصدد، وهذه أبرزها:
أوّلاً: الملفّ الرئاسي حُسم باتفاق ضُمني على وُصول العماد ميشال عون إلى منصب الرئاسة، وما يجري حاليًا هو تحضير الأجواء للإخراج المناسب لهذا الأمر، بدءًا بتحضير البيئة السنّية المُؤيّدة لرئيس "تيّار المستقبل" سعد الحريري لهذا الخيار، وُصولاً إلى عدم إظهار أيّ طرف بموقع الخاسر من السير بالعماد عون رئيسًا، لا سيّما كل من رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي والنائب سليمان فرنجيّة. وكذلك العمل خلف الكواليس على وضع الخطوط العريضة للمرحلة السياسيّة المُقبلة، لجهة توزيع نفوذ القوى السياسية، وتحديد سُبل تقاسم السُلطة، وتسهيل دوران دفة الحُكم.
ثانيًا: الملفّ الرئاسي لا يزال عالقًا كليًا، وما يجري حاليًا هو مجرّد مناورة "متعدّدة الطراف"، بدءًا من "تيّار المُستقبل" الذي يرغب بامتصاص غضب العماد عون، وبتنفيس أيّ تحرّكات مُفترضة على الأرض من قبل "التيّار الوطني الحُر"، مُرورًا بمحاولات بعض الجهات السياسيّة لكسب الوقت بهدف معالجة إنقساماتها الداخليّة أو بهدف محاولة حفظ مصالحها في أيّ تسوية مُقبلة، وُصولاً إلى "حزب الله" الذي يرفض "الإفراج" عن الرئاسة حاليًا، ويقف خلف "عراقيل" بعض القوى الحليفة، في انتظار التسوية الإقليميّة التي يُحتمل أن تتضح معالمها بعد أشهر قليلة من وُصول الإدارة الأميركيّة الجديدة إلى السُلطة في واشنطن، وبعد معرفة مكاسب وتنازلات القوى المُؤثرة في المنطقة مثل إيران والسعودية وتركيا وغيرها من الدول. إلى ذلك، تتقاطع مصالح أكثر من طرف داخلي على تمرير الأشهر الثلاثة المُقبلة بآمال زائفة للعماد عون، تمهيدًا لفرض قانون الإنتخابات النيابيّة الحالي كأمر واقع لا يُمكن الخروج منه إذا ما أراد المسيحيّون إجراء الإنتخابات وعدم التمديد مرّة جديدة للمجلس الحالي!
ثالثًا: الملف الرئاسي لا يزال في مرحلة رماديّة، حيث أنّ حركة "تيّار المُستقبل" ليست مُناورة بل مُحاولة جدّية للتوصّل إلى تسوية مُنصفة للجميع، تحفظ موقع ومصالح "التيّار" بغضّ النظر عن هويّة الرئيس الذي ستمشي به باقي القوى السياسيّة، وأنّ "عرقلة" بعض القوى السياسيّة هي مرحليّة لتعزيز الشروط التفاوضيّة، ومنعًا لتمرير أيّ تسوية ثنائيّة بين تيّاري "المُستقبل" و"الوطني الحُرّ" على حسابها. وبالتالي، الأمور تحتاج لأسابيع عدّة، وحتى لبضعة أشهر لتتحلحل، حيث أنّ التسوية الرئاسيّة غير معزولة عن تسوية قانون الإنتخابات النيابيّة، ولا عن تسوية الحكومة وهويّة رئيسها وتوزيع المناصب فيها. حتى أنّه تُوجد آراء عدّة تتحدّث عن أنّ أيّ تسوية شاملة ستطال أيضًا هويّة قائد الجيش الجديد، وهويّات رؤساء مجموعة من المناصب السياسيّة والأمنيّة والقضائية والمالية الحسّاسة في الدولة.
وبغضّ النظر عن مدى دقّة كل من هذه النظريّات المذكورة أعلاه، لا شكّ أنّ مسيحيّي لبنان أمام تقاطع حاسم، فإمّا تتجه الأمور نحو مرحلة "إستعادة الحُقوق"، لجهة إنتخاب رئيس جُمهوريّة قوي يملك حيثيّة شعبيّة واسعة ويرأس كتلة نيابية كبيرة، ولجهة تقاسم السُلطة التنفيذيّة مُناصفة بين المسيحيّين والمُسلمين من دون وضع "فيتوات" على إعطاء المسيحيّين وأحزابهم، بما فيها حزب "القوات اللبنانيّة"، أي منصب أو حقيبة وزارية، ولجهة المُوافقة على قانون إنتخابات نيابيّة جديد لا يخنق صوت الناخب المسيحي بأغلبيّة أصوات الناخبين المُسلمين في عشرات الدوائر. وإمّا تتجه الأمور نحو الإستمرار في سياسة التهميش المُعتمدة بحقّ المسيحيّين منذ ما بعد مرحلة 13 تشرين الثاني 199(1)، لجهة تثبيت ما كان فرضه جيش الإحتلال السوري من "ستاتيكو" بين العامين 1990 و2005، عبر سياسة نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام قبل "كفّ يده" عن الملف اللبناني (إنشقّ عن النظام السوري في كانون الأوّل 2005)، وكذلك من خلال قبضة كل من رئيسي جهاز "الأمن والإستطلاع" السوري في لبنان غازي كنعان (قيل إنّه إنتحر في 12 تشرين الأوّل 2005)، ثم رستم غزالي، وذلك حتى إنسحاب الإحتلال في 26 نيسان 2005.
وهذا الـ"ستاتيكو" كان يتمثّل في "تركيبة" سياسيّة متينة تُوزّع السلطة بين كل من القوى السياسيّة الشيعيّة والسنّية والدرزيّة، مع ترك حُضور هامشي للمسيحيّين في الحُكم، عبر شخصيّات ضعيفة التمثيل الشعبي، وعبر مناصب تنفيذيّة محدودة السُلطات، وعبر قوانين إنتخابيّة لا تعكس التمثيل الفعلي للمسيحيّين. وعلى الرغم من مرور 10 سنوات على إنتهاء الحقبة السوريّة في لبنان، فإنّ القوى السياسيّة المُسلمة لا تزال مُتمسّكة بهذه الإمتيازات الفوقيّة وغير الدستورية ولا الميثاقيّة، وهي ترفض التراجع عن أيّ من مكاسبها السابقة، مُستقوية بكل من التغيير الديمغرافي والسلاح والنفوذ داخل الدولة، ومُستفيدة من "إستزلام" بعض الشخصيّات المسيحيّة لها بحكم المصلحة المُشتركة.
في الخلاصة، ما لم يتمّ إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة، فهذا يعني إصرار القوى السياسيّة المُسلمة في لبنان، بكامل مذاهبها وتيّاراتها، على تثبيت "تركيبة" الإحتلال السوري لمزيد من الوقت، لأنّ "الجنرال" ومنذ توقيعه "ورقة التفاهم" مع "حزب الله" في 6 شباط 2006، لا يُفترض أن يُشكّل إستفزازًا لكثير من القوى الداخليّة من الناحية السياسيّة. وبعد توقيع "الجنرال" "إعلان النوايا" مع حزب "القوات اللبنانيّة" في 5 حزيران 2005، ثم إعلان رئيس "القوات" سمير جعجع ترشيحه في 18 كانون الثاني 2016، لا يُفترض أيضًا أن يُشكّل قلقًا للقوى السياسيّة التي تقف في "المقلب" المُناهض لحزب الله وحلفائه، خاصة بالنسبة إلى الخطوط العريضة للسياسة التي سيعتمدها العماد عون خلال حكمه. وبالتالي، إنّ رفض وُصول "الجنرال" لموقع الرئاسة، من أي جهة كان، ليس مُستندًا إلى إعتبارات سياسيّة مُقنعة خاصة بعد خلط الأوراق السياسيّة الداخليّة بشكل كبير، وإنّما إلى رغبة في إبقاء المسيحيّين فئة خاضعة بدور هامشي وثانوي. والتذرّع بغير ذلك، ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون بحجج واهية.
(1)يوم دخلت الدبابات السوريّة إلى قصر بعبدا وأزاحت بالقوّة وبعد هجوم واسع، "الحكومة الإنتقالية" التي كانت برئاسة العماد ميشال عون.