يوماً بعد يوم تُقرع طبول الحرب الكبرى في سوريا، وتزداد التصريحات المتشجنة بين كل من الروس والأميركيين، خصوصاً بعدما سقط الاتفاق الهشّ الذي عقده وزير الخارجية جون كيري مع الروس حول حلب ووقف العمليات العدائية، والذي لم يعمّر سوى أيام معدودة، خرق خلالها المسلحون الهدنة حوالى 300 مرة، وانتهت بقصف طائرات التحالف الدولي للجيش السوري في دير الزور، قابلها قصف روسي لغرفة عمليات حلب، والتي ذكرت تقارير إعلامية أنه قتل فيها ضباط "إسرائيليون" وغربيون وأتراك.

وبالتوازي مع قرع طبول الحرب وارتفاع وتيرة التهديدات بين الروس والأميركيين، يعتقد البعض أنه ما زال بإمكان الرئيس ​باراك أوباما​ - وبالفترة المتبقّية لديه -إصدار الأوامر بشنّ حرب على النظام السوري، أو على الأقل شنّ ضربات جوية قاسية لتعطيل قدراته الجوية، ويعطون مثالاً على ذلك قيام الرئيس الأميركي بيل كلينتون بقصف العراق في آخر يوم من ولايته، بينما يعتقد البعض الآخر أن الأميركيين باتوا محرَجين في سوريا، لذا يحاولون التعويض عن هذا الإحراج بالصراخ والتهديدات.

وبغض النظر عن مدى دقة أي من التكهنات الواردة أعلاه، فبلا شكّ هناك خلط أوراق كبيرة في المنطقة، والأشهر المقبلة ستكون مصيرية في مستقبل النزاع السوري ككل، والأميركيون أمام خيارات كبرى في حال قرروا زيادة تدخُّلهم العسكري في سوريا:

أولاً: خيار الحرب الدولية الشاملة هو خيار مستبعَد، لأنه لا الروس ولا الأميركيين مستعدون للدخول في حرب مباشرة في الشرق الأوسط، لما لهذا الخيار من نتائج كارثية على العالم أجمع.

ثانياً: خيار الحرب الأميركية المحدودة على ​الجيش السوري​، وتعطيل قدراته الجوية، وهو خيار مطروح منذ زمن، خصوصاً أن المتابع لسياق التباينات داخل الإدارة الأميركية، يلاحظ ما يلي:

1- منذ بداية الأزمة السورية كان هناك قرار رئاسي واضح، يدعمه البنتاغون الأميركي، بعدم التدخل العسكري المباشر في سوريا، لأن الأميركيين الذين ما زالوا لغاية اليوم يدفعون ثمن حروب بوش في العراق وأفغانستان، هم بغنى عن مغامرة عسكرية أخرى يُدخلون فيها الجيش الأميركي في حرب يعرفون كيف تبدأ ولا يعرفون كيف تنتهي.

2- في المقابل، كانت وزارة الخارجية الأميركية خلال عهد هيلاري كلينتون - وكما كشفت نصوص عقيدة أوباما في "ذي اتلانتك" - تميل إلى مزيد من التدخُّل العسكري الأميركي، وإلى إعطاء المجموعات المسلّحة في سوريا ما تحتاج إليه للانتصار في المعركة ضد النظام السوري. أما في عهد جون كيري، وبالرغم من جولاته التفاوضية المستمرة مع الروس، فالغالب أنه وجزء هام من إدارة وزارة الخارجية كانوا يميلون لصالح الخيار العسكري، والدليل الوثيقة الاعتراضية المسرَّبة عن 51 مسؤولاً في الخارجية، والتي انتقدت سياسة أوباما في سوريا وطالبت بتدخُّل عسكري أكبر، بالإضافة إلى تهديدات كيري المستمرة بالخطة "ب"، وأخيراً كلام كيري المسرَّب عن لقائه مع معارضين سوريين على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، والذي عبّر فيه عن إحباطه لأن جهوده الدبلوماسية لإنهاء النزاع في سوريا لم يتم دعمها بعمل عسكري تشنّه الولايات المتحدة.

الأرجح أن جون كيري، في تفاهمه الأخير مع لافروف، كان يراهن على تكرار سيناريو الهدنة السابقة، أي إلزام الروس والسوريين بفعل لا شيء، بينما يُعطى الأميركيون وحلفاؤهم الوقت الكافي لإعادة تسليح المجموعات المسلحة ومدّها بالإمداد اللازم لاستئناف القتال، بينما يأخذ المسؤولون العسكريون الأميركيون على ذلك التفاهم أنه كان بصدد سحب ورقة هامة يملكها الأميركيون في استراتيجتهم العسكرية في سوريا، وهي ورقة القتال عبر الجماعات المسلحة، ففصل "النصرة" عن المجموعات المسلحة الأخرى يعني فعلياً إضعاف المجموعات المسلحة في مقابل الجيش السوري، فالقتال في سوريا يعتمد بشكل رئيسي على "النصرة"، ولا يمكن للبنتاغون أن يخسر ورقة رابحة في النزاع السوري بدون أن يطلب في المقابل مكاسب سياسية كبرى لم تكن موجودة في الاتفاق الأخير.

تحسُّباً لهذا الخيار، صعّد الروس من وتيرة تهديداتهم العلنية، وقاموا بتزويد الجيش السوري بصواريخ "أس 300"، للدفاع عن النفس "القانوني والمشروع في القانون الدولي"، في حال قرر الأميركيون المغامرة بهذا الخيار.

برأيي، وبناءً على دراسة المعطيات الشخصية للرئيس أوباما، والتاريخية المتعلقة بدروس الحروب في الشرق الأوسط، وكلفة أي خيار عسكري غير محسوب النتائج، وتأثيره على نتائج الانتخابات الأميركية، يمكن القول إن الأميركيين لن يذهبوا الى خيار الحرب مع روسيا ولا إلى خيار الضربات الجوية المحدودة للجيش السوري، فما لم يفعله أوباما خلال أزمة الكيماوي لن يفعله وهو يغادر البيت الأبيض، وقد تكون حادثة دير الزور تجربة أراد الأميركيون من خلالها اختبار مدى استعداد الروس للردّ، وأتتهم النتيجة واضحة.

لذا، سيركّز الأميركيون في هذه الفترة الانتقالية على الانتصار على "داعش" في الموصل أو الرقة، بينما يحرصون في المقابل على عدم السماح للروس وحلفائهم بقلب موازين القوى العسكرية، والإبقاء على التوازن السلبي بين جميع القوى في سوريا، مما يستنزفها جميعها؛على طريقة "عدو عدوي في الشرق الأوسط يبقى عدوي".