بات على اللبنانيين التعايش مع الواقع المأزوم الذي تعيشه البلاد بعيداً عن الرهان على حلول تأتي من الخارج، أو تفاهمات يتمّ التوصل إليها في الداخل؛ ذلك أن ثمة تقاطعاً بين الحسابات الإقليمية والتعقيدات المحلية تقضي بإبقاء لبنان ضمن دائرة الاضطراب والشلل إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

لا شيء يشي بأن المشهد اللبناني سيخرج عن كونه جولات متلاحقة من الفساد والخصومة والفراغ.. القطيعة بين المتخاصمين تحكم المواقف، ولا طاولة للحوار يجتمعون حولها.. الخطاب العدائي متصاعد، ولا يأخذ بعين الاعتبار مصالح البلد والناس.. الانسياق الغريزي يؤبّد الاصطفافات القائمة، ويهدد الصيغة الميثاقية والعيش المشترك.

الوضع بالغ الخطورة، فيما الغالبية ما زالت تنظر إلى المشهد من خلال الزوايا الضيقة.. الاحتقان بين القادة سيد الموقف، ويعبّر عن نفسه بجرعات مرتفعة من اللعن والعدوانية.. الكراهيات المتعاظمة تحكم نظرة كل فريق إلى الآخر، مصحوبة بما تيسّر من سجالات وصدامات.. ذلك كله يتصدر المشهد، بينما يغيب عن الرؤية تسيّد الفقر والمخدرات، وانعدام فرص العمل، وارتفاع معدل الجريمة، واستشراء الفساد، وتراكم النفايات، وتفشّي الأوبئة، هذا عدا عن الكساد الاقتصادي، وتصاعد الدَّين العام، واحتمال إفلاس الدولة، ووجود ما يقارب نصف الشعب اللبناني من اللاجئين السوريين على الأراضي اللبنانية..

يتقن اللبنانيون تتبُّع الهوامش والتغاضي عن الأصل، ويحاربون من أجل الفوز بالنقاط والجميع مهدّد بخسارة الضربة القاضية، ويحبون الأسئلة التفصيلية، فيما تغيب عن أجنداتهم القضايا الكبرى.. يتتبعون صغائر الأمور، في حين أن الملفات الكبرى خارج الرؤية والمتابعة.. يختصرون أزمة البلد بكيفية إدارة جلسة في مجلس الوزراء، أو بالخلاف على تعيين موظف في منصب، أو بالتنازع حول مطمر للنفايات، بينما البلد كله مهدد بالدخول في مرحلة ذهب مع الريح.

يحتاج اللبنانيون إلى ما هو أبعد من انتخاب رئيس وقانون انتخابي، وأكثر من مؤتمر تأسيسي وعقد اجتماعي جديد، هم يحتاجون أولاً إلى تعلُّم ثقافة الانتظام في المجتمع، والعيش في كنف المحبة والكرامة، ثم يحتاجون ثانياً إلى طبقة سياسية جديدة تدير البلاد بعقلية رجال الدولة، لا بعقلية العصابات والمليشيات..