يقول المثل الشعبي "خذوا أسرارهم من صغارهم"، ومن يسمع قيادات الصف الثاني لقوى "14 آذار" وبعض رموز تلك القوى، يلمس مدى الفارق الكبير بين صراحة هؤلاء وادعاء أولئك.. هي صراحة "الصغار" الذين يعترفون أن المشروع الذي طالما نظّروا له وقاتلوا لإنجاحه، سقط بوصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، وادعاء المكابرين "الكبار"، الذين يوهمون الآخرين بأن لهم الفضل في تحقيق أمنية "الجنرال" البرتقالي.

فاز العماد ميشال عون وأصبح "فخامة الرئيس" وعاد إلى قصر بعبدا، بعد أن نجح خياره بالتحالف مع المقاومة؛ بما تمثّل ومَن تمثّل، لكن هل هناك من يُقنع سمير جعجع والرئيس سعد الحريري بأنهما خاسرَيْن وفاشلَيْن وأن كلامهما عن الوحدة الوطنية هو لاستخدامها ستاراً دخانياً يغطّي التحاقهما بركب "الجنرال" عون مرشح حزب الله الأوحد؛ حسب وصف رموز ومنظّري قوى "14 آذار" أنفسهم.

كانت أولى خسائر الحريري الرئاسية، أنه عجز عن تقديم مرشّح لرئاسة الجمهورية من أعضاء كتلة نواب "المستقبل"، فتراجع إلى صفوف الحلفاء، وكان ترشيح الحريري لسمير جعجع تراجعاً آخر، فجعجع غير مقبول في بيئة "المستقبل"، وتاريخه الميليشياوي يناقض كل الشعارات "المستقبلية" المتهالكة حول بناء الدولة والعبور نحوها وغير ذلك، مما لم تؤكد الأيام صدقيته، فكيف إذا كان جعجع متهَماً ومداناً بقتل رئيس حكومة فعلي، هو الراحل الكبير الشهيد رشيد كرامي؟

بعدها جاء التراجع غير المتوقَّع، والذي أسقط كل الموانع والاعتبارات؛ عندما تبنّى الحريري ترشيح النائب سليمان فرنجية؛ "شقيق" الرئيس السوري بشار الأسد، بالروح، كما يصف نفسه ويصفه محبّوه. ثم جاءت الخطوة الأخيرة بتبنّي الحريري ترشيح الرئيس العماد عون لرئاسة الجمهورية، كممرّ إجباري لم يكن من مفرّ لعبوره على وعد الوصول إلى السراي الحكومي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من "الزعامة" الحريرية، بعد أن تفتّت بإفلاس "سعودي أوجيه"، وانشقاق الوزير أشرف ريفي ومن سار على خطاه.

أما قائد "القوات اللبنانية"، فحدّث ولا حرج عن خندق الدماء الذي فصله عن القائد السابق للجيش اللبناني العماد عون، وصولاً إلى منافسته العملية والجدية للوصول إلى بعبدا. وبقي سمير جعجع ثابتاً على خطه وخياره التصادمي مع عون، حتى لحظة انقلاب الحريري عليه وتبنّيه ترشيح عدوه وخصم الدم والثأر؛ سليمان فرنجية، فأسقط في يده ولم يكن أمامه غير الالتجاء إلى ركب الجنرال عون لعبور هذه المحطة الصعبة وتقطيع الوقت.

لكن المشكلة مع الحريري وجعجع أنهما يوهمان أنصارهما بأنهما أصحاب الفضل بنجاح الرئيس عون، وأنهما في مقدّم الفائزين.

يناقض الرئيس الحريري نفسه عندما يعتبر أن مرشح حزب الله هو الفراغ وليس ميشال عون، لكنه في الوقت نفسه يرى أن تعطيل الرئيس نبيه بري تشكيل الحكومة المقبلة وتضامن حزب الله معه، هو موقف مباشر منهم ضد حليف حزب الله ميشال عون.. هي أحجية لا يعرف حلها، حتى الحريري نفسه!

لا يختلف جعجع في فلسفته للتطورات الأخيرة عن "تذاكي" الحريري، فيكرر هو وزوجته النائبة ستريدا جعجع "إننا نمر بمرحلة تاريخية"، لكنهما لا يقولان هل هي مرحلة تاريخية مفرحة أم محزنة لهما، علماً أن جعجع خاسر كمشروع سياسي وكمرشح رئاسي، كما خسر حليفه الأول الذي باعه في اللحظة الحرجة.

يأخذ الحريري، وجعجع كذلك، مقولة "تحييد لبنان" لمحاصرة الرئيس عون وتفخيخ علاقته بحليفه الصادق والوفي حزب الله، لكن الحريري يفوته أنه يمنّن الناس بأنه خسر ثروته وصرفها على ما يسميه "الثورة في سورية"، فكيف يستقيم هذا الكرم الحريري في تشكيل وتمويل عصابات دمّرت سورية واحرقتها وهجّرت شعبها، مع دعوته إلى التحييد؟

لا ينسى اللبنانيون أن الحريري وجعجع وكل رموز وقوى "14 آذار" اضطهدوا عون وحاولوا منعه من العودة إلى لبنان، وطلبوا ذلك من "حليفهم" وقتها جاك شيراك، وافتعلوا له الكثير من المشكلات والعقبات التي لا تتّسع لها مقالات أو كتب، واليوم هم على وشك أن يعرضوا عليه تزعُّم قوى "14 آذار"، التي أسسها كشعار وسرقوها منه على الأرض.

أما وليد جنبلاط فكان أكثر احتراماً لذاته من رفقائه في "14 آذار"؛ قبِل على مضض التغيير الحاصل وانضم إلى السائرين بركب الرئيس الجديد إلى بعبدا، من دون تمنين أو "تربيح جميلة"، ولا ادعاءات فارغة أو مكابرة وتضليل للناس كما يفعل الآخرون.

أما الرئيس نبيه بري وكما في معاركه، فقد كان أستاذاً بحق؛ لم يقبل أن يكون ملحقاً بتحالف عون - حزب الله، لكنه لم يترك هذا الموقف يؤثّر على حلفه مع الحزب، لذلك لم يؤيد انتخاب عون ولم يحاربه، وهو القادر على فعل الكثير، وعوضاً عن ذلك استعمل سلاح الموقف، فهُرع الجميع لسؤال خاطره.

أصبح العماد عون رئيسا للجمهورية لأنه ميشال عون أولاً؛ بما يمثل ومن يمثل، ووصل ثانياً لانه حليف المقاومة الصامدة والمنتصرة في كل أنحاء المنطقة، لكن الرئيس الحريري وسمير جعجع يكابران ويلعبان لعبة محاصرة الرئيس الجديد بالعواطف وتفخيخ الشعارات، لإعادة إحياء رهاناتهما ومشاريعهما المتجسدة بالعداء لسورية والمقاومة، لذلك لا بد من تذكيرهما بأنهما مهزومان، وأن من يريد الظهور في الصورة مع المنتصرين لا بد له من التصالح مع أصحابها، حتى لا تكون مجرد محطة لاستمرار الحرب.