"لو كان بدها تشتي.. غيّمت" هذا ما تبدو عليه مسيرة تشكيل حكومة العهد الأولى، المعرقَلة بفعل محاولة البعض تكبير حجمه الوزاري، أو بفعل صعوبة تمرير الصفقات التي عُقدت من تحت الطاولة قبيل إنجاز الاستحقاق الرئاسي، فباتت عُقَداً مستعصية بعد انكشاف أمرها ومواجهتها بالرفض من قبَل أكثر من جهة سياسية، وبالتالي فإن الكلام عن تشكيل الحكومة قبل عيد الاستقلال بات أمراً مستبعَداً.
ما يزكّي هذا التأخير هو "السقوف العالية" للمطالب التي رفعتها بعض القوى السياسية، والتي لامست ما يُعتبر "خطوطاً حمر" لدى قوى سياسية، مثل محاولة انتزاع وزارة المال من الرئيس نبيه بري، والتي كانت، حسب جهات عدة، "فاول" ارتُكب بحق العهد الجديد والحكومة المزمَع تشكيلها، خصوصاً أن رئيس حركة "أمل" توجّس مسبقاً من مثل هذه المطالب و"الشطحات"، وكان لها بالمرصاد من قبل إنجاز الاستحقاق الرئاسي.
وتذكّر أوساط فاعلة بأن نائب الرئيس السوري الأسبق؛ عبد الحليم خدام، طرح فكرة راودته خلال مرحلة تحضير "اتفاق الطائف" في المطابخ السياسية المعنية، تقضي بأن تكون ولاية رئيس مجلس النواب اللبناني سنة واحدة بدلاً من أربع، فقيل له إن مثل هذا الأمر لو تمّ سيؤدي إلى تهميش الدور الشيعي في السلطة، ووضع رئيس المجلس تحت رحمة رئيسي الجمهورية والحكومة، وهذا سيترك تداعيات لن يكون في صالح الخروج من الأزمة اللبنانية.
تروي الفاعلية هذه الواقعة لتقول إن النقاش في هذا الأمر، حينها، أنتج تفاهُماً شفهياً، على هامش اتفاق الطائف المكتوب، يعطي الشيعة توقيعاً دائماً على القوانين والمراسيم، إلى جانب توقيع كل من رئيسي الجمهورية والحكومة، من خلال تثبيت وزارة المال ضمن "حصّتهم" في كل حكومة، وذلك تطبيقا لمبدأ المثالثة داخل المناصفة المعترَف به من قبَل الجميع، وما حصل من "تنازل" الرئيس بري عن "المالية" للرئيس الراحل رفيق الحريري كان لأمر شخصي وآني في حينه، أكثر مما هو سياسي، وكان "خطأ" لا يمكن تكراره ضمن أي ظرف آخر. وما يؤكد، حسب الفاعلية، هذا الكلام، أن التطورات أدت إلى ابتداع فكرة "الثلث المعطّل"، تعويضاً عن تمسُّك الرئيس فؤاد السنيورة بـ"المالية".
هذه الرواية ضرورية بالنسبة إلى الأوساط السياسية التي روتها، لتقول إن ما جرى كان "قنبلة دخانية" أُلقيت في ساحة تشكيل الحكومة، ومن ألقاها يعرف ألا مفعول لها، وأن انتزاع "المالية" من الرئيس بري يقارب المستحيل، لكن الهدف كان للتغطية على صفقتين أُبرمتا قبيل الاستحقاق الرئاسي، الأولى: إيجاد ثنائية مسيحية - مسيحية، وتحديداً "عونية" - "قواتية"، تهمّش ما عداها من التمثيل المسيحي، وأوله تمثيل الوزير سليمان فرنجية وحزب "الكتائب" والمستقلين المسيحيين، خصوصاً أن طرفي الثنائية خرجا من رحم "المجتمع المسيحي" الذي هيمن عليه حزب "الكتائب" خلال حرب السنتين وما بعدها، ولا مصلحة لهما بوجود "كتائب" قوية، ولا بمنافس مثل فرنجية يقطع الطريق على وعد سمير جعجع بالوصول إلى بعبدا بعد الرئيس عون.
أما الصفقة الثانية، ومن خلال تحذير الرئيس بري بأن التمديد لمجلس النواب هو نحر للعهد، فهي توافق مع الرئيس الحريري على تأجيل الانتخابات النيابية ريثما يستعيد "تيار المستقبل" توازنه المالي والسياسي، من خلال عودة الحريري إلى السراي الحكومي.
إذاً، ما توجّس منه الرئيس بري قبل الانتخابات الرئاسية كشفته مداولات تشيكل الحكومة، والعقدة تراوح عند إصرار "القوات" على تنفيذ ما وُعدت به من "مساواة" في التمثيل مع "التيار الحر"، علماً أن هذا الوعد غير قابل للصرف، فالرئيس الحريري لديه تمثيل نيابي مسيحي يفوق حجم التمثيل "القواتي" بضعفين، كما أن بين "القوات" والحقيبة السيادية جداراً لا يمكن تخطّيه، فالداخلية "مطوَّبة" لحصة الرئيس الحريري، والمالية للرئيس بري، أما الخارجية فهناك شبه إجماع ليس فقط على نجاح جبران باسيل فيها، بل على عدم تسليمها لمن لا يؤتمَن على سياسته وارتباطاته، أي "القوات"، وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة الدفاع، فتولية "قواتي" عليها استفزاز للمؤسسة العسكرية، وخيانة لدماء وأرواح الجنود والضباط التي سفكتها "القوات" عندما كان الرئيس عون قائداً للجيش، وهذا يؤكد أن تشكيل الحكومة ما يزال "طبخة بحص"، خصوصاً أن أوساط العهد بدأت التبرؤ من الحكومة الخاضعة للتشكيل، عبر قول إن حكومة العهد الأولى هي حكومة ما بعد الانتخابات، أما الحكومة المنتظَرة فهي حكومة الحريري الثانية، فالنجاح يتبناه الجميع، فيما الفشل يتيم يلقى وزره على الطرف الأضعف، أما "كاسحة الصفقات" نبيه بري فيبدو أنه كرّس نفسه مجدداً الرجل الأقوى والأحرص على مؤسسات الدولة.