قيل الكثير في زيارة الرئيس ميشال عون إلى السعودية وقطر. وتراوحت التقديرات للزيارتين بتناقض حاد في ما بينها، على الرغم من التصاريح الرئاسية الملكية والأميرية الرسمية التي أكدت أن الزيارتين تهدفان إلى فتح صفحة جديدة صحيحة في العلاقات بين بيروت والرياض، وبين بيروت والدوحة، من دون أن تُكتب بوضوح وعلانية سطور العلاقات المستجدّة، نظراً للكتمان الذي تعتمده دول الخليج على قضاء حوائجها.

وكعادة اللبنانيين فسّر فريق منهم الجولة الرئاسية الخارجية الأولى كتعريب لخيارات العهد وسياساته. وكأن الرئيس كان عرضة للمساءلة في خياراته، أو كان هناك شك في عروبته. التركيز على الجانب "التعريبي" جاء هذه المرة من فريق الرابع عشر من آذار الذي يرى في الرياض حاضنة العرب الأولى، وتليها الدوحة!. وليس من فريق الممانعة الذي ينظر إلى باريس وباقي العواصم الغربية بعين الريبة. اعتبر انصار "14 آذار" أن الرئيس عون بصدد استدارة سياسية، إذ لم يبادر إلى افتتاح عهده بزيارة القاهرة العاصمة الكبرى والمتدهورة علاقاتها بالرياض، أو بزيارة طهران، او دمشق المتّهمة بالخروج عن الإجماع العربي، وذلك في إطار ردّ جميل لمحور المقاومة الذي رشّح العماد عون للرئاسة وثابر إلى أن تحقق ذلك.

من الطبيعي أن يختلف اللبنانيون في هذا الشأن، فالاعصار الذي ضرب البلد باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، حوّل كل قضية مادة للتجاذب، فكيف إذا كان الأمر شأناً رئاسياً أتى بعد فراغ مديد، وتُعنى به عاصمتان عربيتان هما في عين أعاصير المنطقة ومن علاتها.

لكن ذلك لا يمنع من قراءة متأنّية لما تحقق خلال يومي الجولة. بداية، استبق الجولة تضخيم لدور لبنان في تقريب وجهات النظر بين سوريا والسعودية، وهذه المبالغة كانت كافية لإفشال الزيارة قبل أن تبدأ، نظراً لتعقيدات الحرب السورية في مقابل حجم لبنان، من دون إغفال دور "حزب الله" الإقليمي.

تجاوزت الدبلوماسية اللبنانية القطوع الأوّل بسلام، عن طريق تجاهل هذا الملف، وبالتالي تجاهل ملفّ الخلايا السعوديّة التي عبرت لبنان إلى سوريا.

وتواصل ملفّ التجاهل، ولم تثر أي من القضايا الحساسة الأخرى. لم نقرأ أن محادثات الوفد اللبناني في الرياض تطرّقت إلى قضية العائلات اللبنانية المُبعدة من السعودية بسبب هواها السياسي أو بناء على وشايات لا أساس لها. لم نسمع أن الوفد اللبناني سأل عن معتقلين لبنانيين في السجون السعوديّة بسبب آرائهم السياسية أو لمجرد انتمائهم الطائفي والمناطقي. ربما تم تغييب هذا الشأن لأن محادثات الوفد اللبناني افتقدت مشاركة وليي العهد محمد بن نايف ومحمد بن سلمان الممسكين بشؤون المملكة الأمنيّة والعسكريّة والماليّة في وزارتي الدفاع والداخليّة والهيئة الاقتصاديّة العليا.

وبالتأكيد لم يسع الوفد الوقت ليسأل عن مستحقات لبنانيين ورواتبهم التي لم تسدد منذ اكثر من عام. عن هبة الثلاث مليارات دولار السعودية المعلّقة للجيش اللبناني فأخذ الملك سلمان بن عبدالعزيز علماً بها وأوعز للجهات المختصة دراستها. أي تعليق جديد للهبة. بخصوص التبادل التجاري فمن المستبعد أن تحقق الجولة الرئاسيّة خرقاً يُذكر فيه نظراً لاستحالة عبور الشاحنات اللبنانية المناطق السوريّة.

أما القضية التي نجحت الزيارة في تحقيقها بالإضافة إلى فتح الصفحة الجديدة فهي عودة السياح السعوديين وبالتالي عودة باقي السياح الخليجيين إلى لبنان، وهذا ينعش الاقتصاد، وشهدنا عيّنات منه خلال عطلة نهاية العام المنصرم.

وفي الشقّ القطري، لم تحقق الاشادات الأميرية بتولي العماد عون الرئاسة اي خرق على صعيد العسكريين المختطفين، ولا على صعيد المصوّر المفقود سمير كساب والمطرانين المخطوفين بولس اليازجي ويوحنا ابراهيم. وهذا متوقع نظراً للتجربة السابقة مع الوساطة القطريّة، والتي كانت تقطع اشواطاً طويلة بهمّة الأمن العام من دون الوصول الى خواتيم حميدة. وبالطبع ذوّبت زيارة الدوحة جليداً بدأ يتسامك بين بلدي الغاز والأرز. وهذا يكفي حالياً.

باختصار أعادت الجولة الرئاسيّة الأولى لبنان الى جدول أعمال عربي واسع، وعززت حضوره في مكان للجالية اللبنانية وجود كبير فيه ونفوذ واسع، يحتاجان لرعاية رسمية ولو بالحد الأدنى. فمصالح لبنان من مصالح هذه الجالية التي يؤمن استقرار عملها في دول الخليج استقراراً اقتصادياً واجتماعياً في لبنان. وفي مقابل هذا المكسب نأت الجولة الرئاسية والمشاركين بها عن البحث في القضايا الحساسة او في المسائل السياسية التي تثير حرجاً للمضيف والضيف على حدٍّ سواء، خصوصاً حملات التحريض الاعلامي، والتعبئة التي مارستها الوسائل الاعلامية المتقابلة، وبلغت حد المنع وإغلاق "الفضاء".

ويبقى أن حال لبنان في هذه الجولة كحال الزوجة المخدوعة، تدرك كل يوم ارتكابات زوجها، فتغضّ النظر وتسامحه مضطرة حفاظاً على بقاء أولادها وعلى تماسك العائلة التي إسمها طوائف لبنان الكبرى. ويمضي الزوج مكرراً ما استطاع من خيانات ينجو بها.