مفاجئاً لكثيرين أتى تلويح "التيار الوطني الحر" خلال الساعات الماضية، على لسان رئيسه وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​، بالعودة للقانون "الأرثوذكسي"، في حال عدم التوصّل لتوافق بشأن أيّ من مشاريع القوانين الانتخابية التي يطرحها.

ولعلّ استخدام رئيس المجلس النيابي نبيه بري لمقولة "سبحان من يحيي العظام وهي رميم" خير دليلٍ على ذلك، الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام، فما الذي يريده "التيار" من تلويحه بـ"الأرثوذكسي" اليوم؟ وهل يريد فعلاً إعادة طرحه على الطاولة؟ وأيّ حظوظٍ له في هذه الحال؟

ليجرؤ الآخرون...

لا يخفى على أحد أنّ القانون الأرثوذكسي يشكّل، من حيث المبدأ، الخيار الانتخابيّ الأساسيّ بالنسبة لـ"التيار الوطني الحر"، وهو يفضّله على كلّ ما عداه من مشاريع قوانين انتخابية، سواء منها تلك المطروحة اليوم على الساحة، أو حتى تلك المغيّبة والمخفيّة، بما فيها النسبيّة المطلقة، كما الصيغ المختلطة بتركيباتها المختلفة.

ويعتبر "التيار" أنّ هذا القانون، الذي يقوم على أساس انتخاب المسلمين لنوابهم والمسيحيين لنوابهم وفق النظام النسبيّ، هو الأكثر ضمانة لصحّة التمثيل، باعتبار أنّه يحقّق المناصفة الفعلية والتمثيل الحقيقي للطوائف في آنٍ واحد، كما أنّه يقفز فوق "هواجس" البعض الطائفيّة من النسبيّة، انطلاقاً من حسابات الأعداد والأحجام.

ولكن، مع ذلك، يدرك "التيار" أنّ حظوظ مثل هذا القانون بالحصول على "إجماعٍ" فشلت في حصده صيغ مختلطة، بعضها هجينٌ ومركّب ومصطنع، تكاد تكون معدومة، وهو لذلك تنازل عنه، وراح يطرح مشروعًا تلو الآخر، لأنّ هدفه الأول والأخير هو الوصول إلى قانون انتخابٍ جديدٍ تجرى الانتخابات على أساسه، إلا أنّه اصطدم في المقابل بـ"فيتوهات" بالجملة يضعها الآخرون، وكأنّ هناك قرارًا متّخذًا بالإبقاء على قانون الستين النافذ، بقوّة "الأمر الواقع".

وإذا كان منطق "لا عودة للوراء" هو الذي يتحكّم بسياسة "التيار" في هذا المجال، فإنّه ينطلق أيضًا من أنّ "لكلّ شيء حدودًا"، وبالتالي فإنّ هناك مسؤولية على سائر الأفرقاء بـ"التنازل" في مكانٍ ما، تمامًا كما فعل عندما تخلّى عن القانون "الأرثوذكسي"، وتمامًا كما فعلوا هم حتى أبصرت "التسوية الرئاسية" النور، بدل عرقلة كلّ المشاريع، وفي معظم الأحيان في سبيل ربح مقعدٍ إضافي، لا أكثر ولا أقلّ.

انطلاقاً من ذلك، يمكن القول أنّ تلويح باسيل بالأرثوذكسي يندرج في خانة "الحثّ" التي يعتمدها "التيار" في مقاربة ملف قانون الانتخاب مع سائر الأفرقاء، تمامًا كما فعل بالتهويل من الفراغ النيابي، وذلك لـ"تحفيزهم" للإقدام على قراراتٍ شجاعة وجريئة من شأنها الدفع نحو إقرار قانون انتخابي عصريٍ وحضاري، قد لا يكون الأفضل على الإطلاق، إلا أنّه يجب أن يكون على الأقلّ "أفضل الممكن".

ما هي الخيارات المُتاحة؟

عمومًا، من الصعب الاعتقاد بأنّ "التيار" يمهّد بموقفه هذا لفرض "الأرثوذكسي" في نهاية المطاف، ليس فقط لكونه لا يضمن أصلاً موقف حلفائه في "القوات اللبنانية" منه، بعد أن تخلوا عنه كرمى لعيون "المستقبل" و"الاشتراكي" سابقاً، ولكن قبل ذلك باعتبار أنّه لو أراد التعاطي مع الأمور بمنطق "الفرض" لتمسّك منذ البداية بمشروعه المفضّل. أكثر من ذلك، كان بإمكان "التيار" أن يصرّ على طرح مختلف مشاريع القوانين على التصويت في الهيئة العامة لمجلس النواب، كما تقتضي الأصول، إلا أنّه لم يفعل ذلك لإدراكه أنّ أيّ قانونٍ يجب أن يحظى بموافقة جميع المكوّنات الأساسية، وإلا فإنّ السير به من شأنه أن يكون "عملية انتحارية"، في ضوء الواقع اللبناني الطائفي المعقّد.

ولكن، في مقابل هذه القناعة الراسخة، هناك قناعة أخرى لدى "التيار" وغيره بأنّ المُهَل ضاقت عمليًا، وأنّ الوقت لم يعد مفتوحًا للكثير من الأخذ والردّ، والمطلوب خطواتٌ عملية مدروسة وسريعة للوصول إلى برّ الأمان، في وقتٍ لا تبدو "الخيارات المُتاحة"، والتي بدأ التداول بها على نطاقٍ ضيّق، كثيرة. وإذا كان توجيه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لرسالةٍ إلى مجلس النواب بهذا الصدد أحد هذه الخيارات، فإنّ فائدة هذه الرسالة قد لا تتخطى "الشكليات"، لأنّ الرئيس يحفظ من خلالها ماء وجهه، ولكنّه لا يضمن تعاطي النواب معها بالطريقة المناسبة.

ولأنّ الخيارات "التصعيدية" تبقى مستبعَدة في الوقت الراهن، سواء لجهة استقالة وزراء الرئيس و"التيار" من الحكومة، أو ذهاب الرئيس لخطواتٍ عمليّة من شأنها الدفع نحو الفراغ، يبقى الخيار الوحيد المُتاح هو أن يدعو إلى طاولة حوار في قصر بعبدا، خصوصًا بعد فشل اللجنة الرباعية في إنجاز مهامها. وإذا كان صحيحًا أنّ هذه الخطوة موضوعة "على النار"، علمًا أنّ رئيس حزب "الكتائب" النائب ​سامي الجميل​ كان أول من طرحها منذ فترة غير يسيرة، إلا أنّ الرئيس عون لا يزال يفضّل "التريّث" إزاءها، وذلك لموقفٍ مبدئي وهو إصراره على أنّ هذه الطاولة يجب أن تؤسَّس وفق قاعدة "آخر الدواء الكيّ"، بمعنى أنّ هذه الطاولة لن تكون "شكليّة"، كما كان يحصل في السابق، بل يجب أن تؤسّس لنتائج عمليّة، أياً كانت الظروف، ومهما كانت التداعيات، وهنا بيت القصيد دون شكّ.

نحن تنازلنا... ماذا عنكم؟

رسالة "التيار" من إعادة طرح "الأرثوذكسي" واضحة. هو يريد أن يقول للجميع أنّ مشاريع القوانين التي يطرحها داخل اللجنة الرباعية وخارجها ليست خياره المفضّل. هو كان ولا يزال من المتمسّكين بالقانون "الأرثوذكسي"، إلا أنّه تخلّى عنه في سبيل التوافق.

يبدو "التيار" في هذا الموقف، مخاطباً رافضي المشاريع الأخرى بالمُطلَق، وهو يقول لهم: "نحن تنازلنا... وحان دوركم". فهل يمهّد بمثل هذا الموقف لـ"تنازلات متبادلة" تنهي الجدال الانتخابي، أم يؤسّس لمبارزةٍ جديدةٍ قد توصل إلى خياراتٍ أحلاها مُرّ؟