العالم فضيحة موقوتة بانتظار من يكشفها. المسألة لم تعد ماذا نعرف، بل متى نعرف ومن ينشر. لا أسرار بعد اليوم. خبايا الناس موزّعة على شاشات بحجم الكفّ، نتنقل بين صفحاتها، ونستعرض صورها بلمسة إصبع. حال من الانكشاف الكامل، من المرجح أن تغير من طريقة تلقينا للمعلومات، بغض النظر عن مصدرها، أو وسيلة إطلاقها وانتشارها. انكشاف يُغير أيضا أسلوب هضمنا شلال المعرفة الجديد ومعايير تحليلها وكيفية استنتاج خلاصاتها. هذه مجرد بداية لثورة لن تستطيع الدول الكبرى والقوى التقليدية التحكم بمسارها.

موقع "​ويكيليكس​" بدأ قبل أيام نشر وثائق مسربة من مركز معلوماتية فائق السرية في مقر لـ"وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية (سي آي أيه). نحو ثمانية آلاف وثيقة تكشف الحروب والإمكانات الرقمية والبرمجية في التجسس والقرصنة ومكافحتها.

الوكالة تستطيع التنصت على الهواتف الذكية و"الغبية" وتتجاوز التشفير المعقد لوسائط التواصل الاجتماعي كـ"واتساب" وغيرها من التطبيقات لأنها زرعت فيروسات و"أحصنة طروادة" داخل الهواتف ذاتها، أي أنها تسرق المعلومات قبل معالجتها وتشفيرها. أما الأخطر من بين أسلحتها فهو "الملاك النائم"، درة تطبيقات الوكالة الأميركية. "الملاك" يستطيع تحويل الهواتف وأجهزة التلفزة المنزلية والكومبيوتر المحمول والمكتبي وغيره إلى آلات تسجيل وتنصت وتصوير. لا بل أكثر من ذلك تستطيع "سي آي إيه" التحكم بالسيارات في حال كانت مجهزة بتطبيقات ملاحة مربوطة بشبكة الإنترنت. "ويكيليكس" تؤكد أن ما تم نشره من مجموعة "الخزنة 7" مجرد جزء صغير أطلق عليه تسمية "العام صفر" ويعادل واحد بالمئة من وثائق الوكالة المسربة. "سي أي إيه" لم تنفِ صحة الوثائق، واكتفت بالقول أن خرقاً أمنياً حصل وتم من خلاله تسريب عدد من الوثائق المتعلقة بالمعلوماتية ومكافحة الفيروسات. "الأخ الأكبر" حقيقية ماثلة أمام الأعين. الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ يتهم سلفه ​باراك أوباما​ بالتجسس عليه والتنصت إلى مكالماته. الوكالة الأميركية تجسست وتنصتت على هواتف عدد من زعماء العالم. ومن بينهم الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية، وبدوره قال الكرملين أن الاستخبارات الأميركية تتنصت على السفير الروسي لدى الولايات المتحدة، وأنه ينظر بجدية إلى تقرير "ويكيليكس" حول التنصت على هاتف الرئيس فلاديمير بوتين.

الفضيحة الموقوتة لم تعد خيالاً علمياً ولا فيلم تشويق تنتجه هوليوود. مرة جديدة يتفوق الواقع على الخيال. جيمس بوند يموت بغيظه. المعلومات هي سلاح الدمار الشامل لمن تقع في يده في العصر الرقمي، لا السلاح النووي.

كشف الأسرار و"توجيه" الحقيقة تؤثران في مستقبل الدول ومصائرها. ​هيلاري كلينتون​ التي كادت تكون المرأة الأولى التي تفوز بالانتخابات الرئاسية الأميركية عزَّت خسارتها إلى تسريبات "مكتب التحقيقات الاتحادي" معلومات عن اختراق بريدها الإلكتروني. وهناك اتهامات لموسكو بتدخلها إعلامياً والكترونياً للتأثير على الناخبين في فرنسا، وعلى آراء البريطانيين في مسألة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

والمثير في هذه الحرب الإلكترونية أن من المستحيل تعقب مرتكب الجريمة، ولو ترك عن قصد بصمة ما تدل عليه لكنها لا تدينه. هذا يعني أن خبراء القرصنة بنادق للإيجار. وساحات المعارك غير معنية بالحدود والسيادة. "ويكيليكس" تقول إن معارك الـ"سي أي إيه" التجسسية الرقمية في أوروبا والشرق الأوسط تدار من مقر قنصلي أميركي في مدينة فرانكفورت الألمانية.

لا شائعات بعد اليوم بل حقائق علنية وعلى الشاشات، لا مفر من مواجهتها إلا بالادعاء أنها مفبركة ولكل منا الحرية في ما يصدق. الحقيقة لا الحقائق من الآن وصاعداً "بوفيه" مفتوح من وجهات النظر المصورة والموثقة.

قبل كشف وثائق "ويكيليكس" هذه، كان العصر الرقمي أباح المستور إلى مستويات خيالية. ووضع المشاهد في مواجهة مسارح لم يألفها العقل من قبل. من كان يتخيل مثلاً أن تصبح متابعة الأخبار بهذه الصورة المباشرة عبر محطات التلفزة والمواقع الالكترونية وتطبيقات الهاتف. كنا نسمع بسقوط مدينة بتقدم جيش على المحور الفلاني. الان الأخبار ترد عن الجبهات العراقية والسورية كالتالي: القوات الحكومية تتقدم داخل المبنى الثاني في المجمع الفلاني وتحرر الشقّة الرابعة من الطبقة الخامسة، وذلك على الهواء مباشرة. صرنا نشاهد على محطات التلفزة مقاطع فيديو جنسية مصورة من داخل غرف نوم موزعة عبر تطبيق "واتساب". هذا كان مجرد بداية. بعد وثائق "ويكيليكس" وما كشفته عن قدرات أجهزة الاستخبارات على رمينا في غابة تنصت ومراقبة، صارت الفضيحة في طريقها إلى أن تكون المؤسسة والنظام الذي يملك معلومات من دون وجه حق ويستخدمها كرصاص قاتل. الفضيحة الموجهة سلطة جديدة تضاف إلى السلطات الثلاث التقليدية: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبالتأكيد ستكون أقوى من سلطة الإعلام الرابعة، وإن استخدمت وسائطه.

البقاء للأقوى... البقاء للأخ الأكبر.