فعلها دونالد ترامب. لم يصبر طويلاً على محاصرته بمعارضةٍ متصاعدة بشكل تغريدات واتهامات مشينة تمسّ الشرف والكرامة وتعيّره بأهليةٍ متدنية للتقرير والحكم. انتفض غاضباً وضارباً بالصواريخ دولة سيدة بعدما قرّرت الدولة العميقة داخل دولته الفدرالية، ومعها المنظومة السياسية الحاكمة في حزبه الجمهوري، وجوب التشدّد في تطبيق مناهج وآليات استراتيجية قديمة تستهدف الجوار العربي للكيان الصهيوني وسائر ساحات البرزخ الممتدّ من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وصولاً الى الشواطئ الجنوبية لبحر قزوين.

الدافع، إذاً، شخصي وذاتي غايته الدفاع عن كيان رئيسٍ ملياردير متوقّد الغرائز والمطامع والمطامح وتأكيد حضوره وفعاليته في الداخل الأميركي. أما الهدف فاستراتيجي قديم محوره مخطّط جيوسياسي يرمي إلى حماية مصالح الولايات المتحدة وتعزيز أمن الكيان الصهيوني بتفكيك جواره العربي، ولاسيما لبنان وسورية والعراق، إلى كيانات وجمهوريات موز قائمة على أساس قبلي أو مذهبي أو إثني وعاجزة، تالياً، عن الاتحاد لتكوين قوة سياسية واقتصادية وعسكرية قادرة على مواجهة «إسرائيل» ورعاتها.

هذا المخطط الجيوسياسي القديم اكتسب نتيجةَ تطورات سياسية واقتصادية لاحقة بُعداً استراتيجياً إضافياً بصعود إيران عقب ثورتها الخمينية العام 1979 وتحوّلها قوةً اقتصادية وتكنولوجية، وبالتالي عسكرية فائضة القدرات، الأمر الذي استوجب مواجهتها لحماية مصالح الولايات المتحدة وأمنها، كما أمن حلفائها الإقليميين.

ليس صحيحاً، والحالة هذه، أن فعلة ترامب الفاجرة ضد سورية تنطوي على مفاجأة او انقلاب على استدارةٍ كان باشرها الرئيس الأميركي ضد غريمه الرئيس السوري وبلاده المنخرطة في حربٍ ضروس ضد تنظيمات إرهابية كثيفة العديد وغزيرة العتاد، ذلك أن المخطط الجيوسياسي إياه كان وضع موضع التنفيذ منذ حرب 1967 في ظل رئاسة لندون جونسون ما أدّى إلى ضرب ثورة مصر الناصرية في مقاتل استراتيجية باحتلال سيناء المصرية والسيطرة على الجولان السوري واكتساح فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر. ثم ما لبث هذا المخطط أن سجّل كسباً وازناً بإخراج مصر من حومة الصراع العربي ـ الصهيوني عبر اتفاقات «كامب دايفيد» العام 1979، وتعطيل منظمة التحرير الفلسطينية بإخراجها من ساحتيْ الأردن ولبنان، وإخراج جيش العراق من الكويت ونظامه السياسي برمّته من البلاد بعدما تمّ احتلالها من أقصاها الى أقصاها، ثم إخراج الجيش السوري من لبنان في محاولةٍ لتصفية المقاومة الناشطة في ربوعه.

كل ذلك جرى بدءاً من سنة 1967، خلال ولاية ستة من الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، ومن ثم خلال مرحلة ما يُسمّى «الربيع العربي» في العام 2011، اذ عادت الولايات المتحدة خلالها إلى تفعيل مخططها الجيوسياسي إياه في ظل رئاسة باراك أوباما بتحالفها مع تنظيمات الإرهاب الأعمى وأبرزها «داعش» و«النصرة»، وصولاً الى دونالد ترامب العام 1917 ومباشرتها غزواً عسكرياً سافراً بإنزالها قوات ومدرّعات في شمال شرق سورية، وقصفها جسوراً وقواعد للجيش السوري كان آخرها تدمير قاعدة الشعيرات الجوية في محافظة حمص.

المخطّط الجيوسياسي العدواني الأميركي ضد معظم الدول والشعوب في البرزخ الممتدّ من شواطئ البحر المتوسط الى شواطئ بحر قزوين متواصل ومتصاعد بوتائر متفاوتة الشدة منذ 50 عاماً بلا هوادة، فلا سبيل إلى الظنّ بأنه قابل للتجميد أو التبريد في الحاضر والمستقبل المنظور.

كل هذه الواقعات والتطوّرات تطرح سؤالاً ضاغطاً: ما العمل؟

تتعدّد التحليلات والاجتهادات في هذا المجال، لعل أبرزها اثنان:

الأول يؤكد أن الهجوم الاميركي الصهيوني على سوراقيا سورية والعراق متواصل ومتصاعد، ولن يتوقف إلاّ بعد نجاحه او إخفاقه في تحقيق أغراضه.

الثاني يرى أن الولايات المتحدة ستصعّد هجومها في سوراقيا بغية تحقيق مكتسبات جيوسياسية من شأنها تعزيز مركزها التفاوضي ومركز حلفائها الإقليميين في مفاوضات جنيف الحالية والمقبلة، وتأجيج الصراع المحتدم حالياً لغاية أن ينتهي إلى حلول واقعية ومقبولة من اللاعبين الدوليين والإقليميين.

غالبية الفئات الحاكمة في عالم العرب، ولا سيما في الخليج، تميل إلى اعتماد التحليل الثاني وتوجهاته وتتبنّى، تالياً، فعلة ترامب الأخيرة وتحثه على المزيد من أمثالها. في المقابل، تعتمد غالبية قوى التغيير الوطنية الفاعلة في سوراقيا بما فيها لبنان وفلسطين في المشرق وتونس والجزائر في المغرب التحليل الأول وتميل، إلى مطالبة دول محور المقاومة بتزويد تنظيمات المقاومة اللبنانية والفلسطينية ناهيك عن القوات السورية مختلفَ الأسلحة المتطورة وأفعلها، أو باللجوء إلى خيار تمكينها من تصنيعها محلياً إذا تعذّر نقلها إليها، وباللجوء أيضاً الى خيار الاشتباك المباشر مع القوات الاميركية التي جرى ويجري إنزالها في سورية والعراق او في أي قطر عربي آخر. كما تدعو هذه القوى الى معاودة مشاغلة «إسرائيل» بمختلف أساليب المقاومة المدنية وتطويرها تدريجاً إلى مقاومة ميدانية لتتساوق مع جهود المقاومة اللبنانية وجهود سائر قوى المقاومة العربية في سورية والعراق ضد القوات الأميركية والتركية الناشطة فوق التراب العربي. والحجة التي يسوقها هذا الفريق في هذا المجال هي أن استنزاف القوات الأميركية بشرياً في فيتنام كان كفيلاً بإكراهها على الانسحاب، وأنه بالتالي ضمانة المقاومة العربية لردع الولايات المتحدة و«إسرائيل».

في ضوء ما تقدّم بيانه يبدو الصراع في سورية والعراق وعليهما مرشحاً لمزيد من التأجيج والاحتدام في الحاضر والمستقبل المنظور.