قد لا تتكرر عبارة “شكرًا قطر”على شفاه ال​لبنان​يين بعد اليوم، أو قد تتكرر بحذرٍ على المستوى الشعبي لا الرسمي كي لا “تحرد” السعودية التي يلائمها ضمنيًا أن يقاطع لبنان “النائي بنفسه” الإمارة الخليجية كرمى عيني آل سعود وعطاءاتهم.

لم تكن العلاقة بين لبنان وقطر متزعزعة حد الخصومة يومًا، خلافًا للمملكة التي اتخذت مواقف تصعيدية جمة في حقّ حزب الله ومعه الحكومة اللبنانية في غير مناسبة لدرجة منع رعاياها من السفر الى لبنان وقطع استثماراتها وتعليق هبتها للجيش اللبناني وطرد لبنانيين عاملين على أرضها. إجراءاتٌ لم تضمحل وعلاقةٌ لم تصطلح إلا حين زار الرئيس الجديد العماد ميشال عون المملكة وأعاد الأمور الى نصابها والمياه الى مجاريها.

لبنان غير معنيّ

لم تفترض الصلات بين لبنان وقطر مثل هذه الزيارة (رغم أنها حصلت فعلًا مع الرئيس العماد ميشال عون) وهي التي لم تمر بمطباتٍ عقيمة لا على عهد الأب الأمير حمد ولا الابن الأمير تميم، ومع ذلك بقيت علاقة قطر بالحركات المتطرفة في المنطقة أولًا وبحزب الله ثانيًا محطّ كثير من التساؤل والربط والأخذ والردّ. بعيدًا من العلاقة القطرية السعودية التي بدأت تتدهور منذ فترةٍ غير قصيرة، لا بل منذ تسلم الابن زمام الحكم؛ وبعيدًا من الاتهامات السعودية لقطر بزعزعة داخلها وبدعم الإرهاب وبتحريض الحركات التمرّدية على السلطات في البحرين وبمساندة الإخوان المسلمين في مصر، لا يبدو لبنان معنيًا بشكل أو بآخر بكلّ هذه المعمعة ولا مضطرًا الى الانضمام الى قافلة السعودية والبحرين والإمارات ومصر واليمن وشرق ليبيا وربما سواها لاحقًا.

لم تتدخّل يومًا...

متصالحًا يبدو بلدُ الأرز مع نأيه بنفسه عن هذه الخلافات على قاعدة “اللي فيني مكفيني”. لا يناسب الحكومة اللبنانية قطع علاقاتها مع دولة استراتيجية وراعية كالمملكة العربية السعودية التي يُعتبر الرئيس سعد الحريري خير ممثل لها في لبنان، تمامًا كما لا يناسبها مقاطعة قطر التي لها بصماتٌ في

إعادة الإعمار بعد حرب تموز كما وفي ملفات تحرير معتقلين لبنانيين لدى جماعاتٍ متطرفة. أسلس ما في العلاقة اللبنانية القطرية أن إمارة بن حمد لم تتدخل يومًا في الشؤون السياسية الداخلية اللبنانية ولا قاطعت مرشحًا أو فرضت آخر أو رجّحت كفة فلان، وهو ما جعل لبنان “صديقًا جيدًا” لها في غير مناسبة ومع غير حكومة.

صفقة... وشكر!

توطّدت العلاقة اللبنانية القطرية وتحديدًا بين قطر وشيعة لبنان بعد انتهاء حرب تموز وإطلاق الإمارة الخليجية قطار المساعدات وإعادة الإعمار في الجنوب المتألم، لدرجة أن عبارة “شكرًا قطر” ملأت الجدران وعجّت بها اليافطات الممتنة للسخاء القطري. بقيت الصورة وردية حتى مطلع آذار من العام الفائت يوم صنّف مجلس التعاون الخليجي حزب الله إرهابيًا ولم يكن هناك هامشٌ للمناورة أمام كلٍّ من عُمان وقطر. فالأولى تنظر الى إيران على أنها حاجة في المنطقة، والثانية ما انفكّت تتواصل مع حزب الله وموفديه، خصوصًا أنه كانت لها يدٌ طولى في العام 2005 في إتمام صفقة تبادل الأسرى بين لبنان وجبهة النصرة، لا بل لم يتردّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في شكر أميرها تميم بن حمد آل ثاني على دوره في هذه الصفقة. تبايناتٌ تفصيلية بالنسبة الى مجلس التعاون لم تكن لتؤثر يومذاك بعدما أبقى الأمير القطري الشاب موقفه الحقيقي من إيران وحزب الله لنفسه قبل أن يفجّر قنبلته منذ أسابيع في تصريحاتٍ عادت الدولة لتؤكد أنها مفبركة.

حتى لو كانت كاذبة

قاسيًا للدول الخليجية كان وصف تميم جماعة “حزب الله” بأنها “حركة مقاومة”، مؤكدًا أن “ليس من الحكمة العداء مع إيران الراعي الأكبر لـ”حزب الله”؛ الجماعة التي اعتبرتها بعض دول الخليج لا سيما السعودية “جماعة إرهابية”. ورغم الحديث عن فبركة، لا يمكن للتصريحات المتبادلة بين الفريقين القطري من جهة واللبناني الإيراني من جهةٍ أخرى أن “تكذّب” أو تدحض مثل هذه المواقف التي علمت “البلد” أن الأمير الوالد اضطر بعدها الى سحب ملفاتٍ ثلاثة من وليده الشاب على رأسها ملف العلاقة مع السعودية وإيران. وإذا كانت عبارة “شكرًا قطر” عُرضة لأن تغدو طي النسيان أقله بالنسبة الى حلفاء السعودية في لبنان، فإن الاتفاق التاريخي الذي يحمل “الدوحة” في اسمه (اتفاق الدوحة) لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة اللبنانية خصوصًا أنه حلّ في أعقاب شبه حربٍ داخلية دموية ما كانت لتنتهي لولا لقاء الدوحة الشهير الذي أفضى الى انتخاب ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية منهيًا بذلك 18 شهرًا من الشغور الرئاسي. وكانت كلمة الرئيس نبيه بري، حليف حزب الله، معلّمةً

وحافرةً في الوجدان القطري يوم قال لأمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني: “أول الغيث قطرة فكيف إذا كان قطر".

مؤشّر من الجنوب!

لا تنسى أرضُ الجنوب دعسات أمير قطر الأب يوم قصدها في العام 2010 للاطمئنان الى ما أنجزته بلاده في قرى وبلداتٍ دمّر الحقد الإسرائيلي بيوتها. يومها لوقي الرجل بالزغاريد والأرزّ، ومنح لأقرب منافسيه الخليجيين (السعودية) علامة على أن شيعة الجنوب سيظلون يرددون عبارة “شكرًا قطر” الى ما شاء الله لأنهم أهل الوفاء... وبعدها كرّس الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله هذه النظرة الوفائية باستقباله وفدًا قطريًا. كل تلك المؤشرات بنت عليها المملكة قبل أن يمنحها الأمير الابن في مواقفه الأخيرة، أيًا تكن صدقيّتها، صنّارةً لتصطاد في ماء الجارة العكِر... كان على المملكة أن تردّ اعتبارها في مكان ما فحصل ما حصل من دون أن يعني ذلك أن حكومة الرئيس سعد الحريري ملزمة بأيٍّ من خطوات المملكة التصعيدية تمامًا كما لم تكن ملزمة بأيٍّ من بنود البيان الختامي للقمة الإسلامية الأخيرة في الرياض.