حركة المرور كثيفة من ​نهر الموت​ حتى ​نهر الكلب​، ومن نهر الكلب حتى نهر الموت، دائماً كثيفة وفي الإتجاهين.

وحيثما اتَّجهَتْ بكَ القافلة على طريق مرور، أو على أيِّ مسلَكٍ من مسالك هذه الدولة، فإمّا أنْ يواجهك نهر الموت، وإمّا أن يواجهك نهر الكلب.

وفيما أنت تُحْتَجز بين هذين النهرين، يشْردُ بك الذهن الى ما تناقله التاريخ عن بلاد سُمِّيتْ «ما بين النهرين» بما تميَّزتْ به من غنىً حضاري منذ الألف الرابع قبل الميلاد، ثم لا تلبث أن تستيقظ على أصوات «المحرّكات» فترى أنك تسير في بلاد جاهلية، وأرض شيطانية ليس فيها ملاكٌ حارس.

وإنْ وصلتَ مُنْهكاً الى نهر الكلب، ولاحَتْ منك التفاتةٌ الى تلك النقوش التاريخية المنصوبة على الصخور، لأَدركْتَ أن هذا الوطن الذي تمرّد منتصراً لكرامته وسيادته على جحافل الغزاة والأباطرة الطغاة، قد انهزم اليوم منخذلاً على أيدي الأباطرة المحليِّين والغزاة «الوطنيين» الذين يمارسون الغزو في أرضهم «كالصقر الذي يصطاد في وكرِه».

وفي طريقك من عاصمة «الثقافة العربية» «وستِّ الدنيا» بيروت، وفي أيِّ اتجاه انطلقتَ يفرض عليك السير المخنوق أن تقف طويلاً بين جحافل حاشدة من السيارات لتتلقّى مع انبعاث دخانها الأسود، لفحاتٍ «عطرة» من روائح النفايات المكدَّسة على جانبي المسارب الشرقية والمسارب الغربية، كأنها مشاتلُ ورودٍ على الطريق العريض.

وأنتَ في هذه الأزمة الخانقة، مهما كنت بارد الأعصاب والطبْع، لا بدّ من أنْ تغضب وتصخب وتثور، فإمّا أن تصاب بأزمة قلبية أو بأزمة جنونية، فإذا كنت مِنْ حملَةِ السلاح «الفالت» تصبح مهيَّأً لإطلاق النار على من يستفزّك بإشارة يدٍ أو صوت «زمّور»... وإلّا فقد تصبح هدفاً لمن يطلق النار عليك.

أليس أنَّ النظام «الفالت» يحمل بعض الدوافع لاستخدام السلاح «الفالت»...؟

والسلاح «الفالت» يسبّبهُ الأمن الفالت والقانون الفالت والمسؤولية الفالتة والقضاء الفالت فلا يكفي المطالبة بأن يرفع السياسيون أيديهم عن القضاء، بل أن يرفع القضاء صوته في وجه السياسيين ليحكم بالعدل، بين الذين يطلقون النار ابتهاجاً في الهواء والذين يذرفون الدمع تفجُّعاً على الأرض.

وإذا كانت لفظة «الفالت» في القاموس تعني: الأرعن من الناس، وما كان من الماشية غير مربوط، فإننا بسبب من هو أرعن، وما هو غير مربوط، تقع عندنا الحوادث المميتة ويسقط عندنا كل يوم ضحايا بريئة كأننا في ساحة حرب.

ما دامت هيبة الدولة «مربوطة» فعبثاً تجهد أجهزة الدولة الأمنية مشكورة في إلقاء القبض على «الفالتين» من شذاذ الآفاق، ما داموا يدخلون السجون من أبوابها ويخرجون من نوافذها.

عندما يصبح نهر الكلب صدىً يردد النباح وليس رمزاً يردد صدى الأمجاد.

وعندما تستعصي الحلول على السلطة «الفالتة» وتتفاقم الحوادث والضحايا، فلا يبقى أمام الدولة إلاّ أن تشرِّع التنقّل على ظهور الحمير، حرصاً على هيبتها، وعلى سلامة حياة الناس، لأن الحمير الآلية التي تكتظُّ على طرقاتنا اليوم، هي شبيهة بحمار أم عمرو التي يقول فيها الشاعر:

لقد ذهبَ الحمارُ بأمِّ عمروٍ فما رجعَتْ ولا رجعَ الحمارُ.