بعد سنوات طويلة من المُماطلة والتسويف والتأجيل، أقرّ مجلس النوّاب اللبناني ​سلسلة الرتب والرواتب​، كردّ فعل طبيعي نتيجة حفلة مُزايدات مُتصاعدة من قبل بعض القيادات والأحزاب السياسيّة، وذلك بهدف الكسب الشعبي عشيّة الإنتخابات النيابيّة التي يُفترض أن تتمّ في أيّار من العام 2018 المُقبل. والأسئلة التي فرضت نفسها بعد هذا التطوّر المُهمّ: هل ستنعكس الإضافات على رواتب المُوظّفين والعسكريّين وأساتذة القطاعين العام والخاص إيجابًا على الوضع الإقتصادي، أمّ أنّها ستتسبّب بضغوط على خزينة الدولة لتأمين التمويل، وبالتالي بانهيار الليرة، أو على الأقلّ بتضخّم كبير للأسعار يمتصّ الزيادات، ويضرب القدرة الشرائية لعموم اللبنانيّين؟.

لا شكّ أنّ إقرار سلسلة الرتب والرواتب يُنصف جزءًا واسعًا من المُواطنين اللبنانيّين، وتحديدًا موظّفي ​القطاع العام​ والإدارات الرسميّة على إختلافها، والعسكريّين في مُختلف الأجهزة الأمنيّة الرسميّة، وأفراد الهيئات التعليميّة في القطاعين العام والخاص، والزيادات التي حصلوا عليها هي حقّ لهم وليست مِنّة. ومن المعروف أنّ من شأن زيادة السيُولة في يد شرائح واسعة من المُواطنين أن يؤثّر إيجابًا على الإقتصاد، نتيجة تنشيط القدرة الشرائيّة، وبالتالي تحريك الدورة الإقتصاديّة بشكل عام. لكن بمُوازاة هذه الإيجابيّة، تُوجد مخاوف عدّة، بحسب خلاصات رأي أكثر من خبير إقتصادي، وهي تُختصر على الشكل التالي:

أوّلاً: إنّ الزيادات الماليّة التي تمّت جاءت لأسباب سياسيّة وانتخابيّة وشعبويّة، خاصة من حيث التوقيت، وبالتالي لا دراسات جادة ودقيقة لمصادر التمويل، بل عشوائيّة في التصرّف والمُبادرة، ما سيقود حُكمًا إلى ضرائب إضافية على المواطنين، الأمر الذي سينعكس بدوره سلبًا على قدرة المواطنين الشرائيّة، وكذلك على إمكانات الدولة المالية التي تحتاج لأكثر من مُجرّد دخل ضريبي في إقتصاد غير مُنتج، ما يعني الغرق في مزيد من الديون، وبالتالي الغرق أكثر فأكثر في مُحاولات سداد فوائد هذا الدين!

ثانيًا: في مُقابل إستفادة شرائح واسعة من اللبنانيّين من زيادات مالية مُهمّة على رواتبهم، توجد شرائح واسعة، خاصة من بين أولئك العاملين في ​القطاع الخاص​، ستُواجه تراجعًا في قدراتها الشرائية، نتيجة الإرتفاع الحتمي لأسعار العديد من السلع والخدمات، وفي طليعتها الأقساط المدرسيّة، إضافة إلى الإرتدادات السلبيّة للضرائب الجديدة مهما حاول المُشرّعون التخفيف من وطأتها.

ثالثًا: إنّ الإرتفاع المُتوقّع للأسعار بسبب غياب الرقابة الجدّية والفعّالة للأسعار على مساحة الوطن، والتوقّعات بشأن سقوط لبنان في حال من التضخّم المالي التصاعدي والتدريجي في المُستقبل القريب، والغلاء المَعيشي الذي يُنتظر أن يستشري ويتواصل... كلّها أسباب لا تُبشّر بانعكاسات إيجابيّة لإقرار سلسلة الرتب والرواتب، حيث ستكون الفوائد مَحدودة زمنيًا ومَحصورة بفئات مُحدّدة من العاملين، بينما الإرتدادات السلبيّة ستكون أكثر شمولية، وستطال شرائح أوسع من المُواطنين.

رابعًا: إنّ عدم وضع سياسة إقتصاديّة مُنتجة، وعدم تحقيق النموّ الإقتصادي المنشود ولا التنمية المُستدامة، كلّها عوامل غير مُناسبة لأي زيادات إن كانت ضريبيّة أو معيشيّة، وبالتالي إنّ الإصرار على تمرير السلسلة بظروف غير مُؤاتية تحت وقع الضغوط السياسيّة والشعبويّة والإنتخابيّة، وتمويلها عبر مزيد من ​الضرائب​، سيُؤدّي حُكمًا إلى نتائج سلبيّة بعكس الغاية المُنشودة!

في الختام، يُمكن القول إنّ السلسلة وُلدت بعد مخاض عسير، ولا شكّ أنّ فئات واسعة ستستفيد منها إيجابًا، لكنّ في المُقابل، ستُعاني فئات أخرى من إرتداداتها السلبيّة، وسترتفع سريعًا أصوات الإعتراض والرفض من قبل الفئات المُتضرّرة. وإذا كان صحيحًا أنّ البنك المركزي سيتخذ كل الإجراءات الضرورية لمنع إنهيار الليرة اللبنانيّة، لجهة إستمرار التدخّل السريع والفعّال لمُعادلة أيّ عمليات تحويل أموال من الليرة إلى ​الدولار​، ولجهة إستمرار تقديم فوائد مُرتفعة على الودائع ب​الليرة اللبنانية​، فإنّ الأصحّ أنّ وضع خزينة الدولة اللبنانيّة على المدى المتوسّط وخُصوصًا البعيد، لن يكون جيّدًا، وضُغوط الإستدانة والفوائد ستُرهق الدولة وستنعكس سلبًا على اللبنانيّين جميعهم. والخوف كل الخوف من أن يشهد لُبنان حالاً من التضخّم المالي السريع بالتزامن مع إرتفاع أسعار الكثير من السلع والخدمات، لأنّ ذلك يعني عمليًا تآكل الزيادات المالية وانعدام فائدتها، وكذلك زيادة مُستوى ​الفقر​ لدى الفئات التي لن تستفيد من زيادات السلسلة! وإذا كانت الليرة لن تسقط، فإنّ غضب الشرائح العمّالية المُتضرّرة من أسلوب إقرار السلسلة، ومن مصادر تمويلها، سيتفجّر في المُستقبل القريب!