ثمّة مَن يشيع، بخبث، أنّ الجيش ال​لبنان​ي ليس قادراً وحده على مقاتلة «داعش» وإجلائه عن ​جرود رأس بعلبك​ و​القاع​، وإذا كانت ​أميركا​ لم تزوّده، بضغطٍ من «إسرائيل»، بالأسلحة الثقيلة اللازمة للقيام بالمهمة المطلوبة، فهي لن تتوانى عن دعمه خلال هجومه الماثل على «داعش» وفق ما فعلته مع «قوات سورية الديمقراطية» قسد ذات الغالبية الكردية خلال هجماتها لطرده من «عاصمة الخلافة» في ​الرقة​ السورية.

الذين يتوقعون من أميركا هذه «المكرمة» يعرفون أنّ ​الجيش اللبناني​ قادر بوضعه الحالي على القيام بالمهمة الوطنية المطلوبة من دون دعم منها، فلماذا يطالبونها بذلك؟

الواقع، أنّ فريقاً من أهل السياسة والمصالح في لبنان متضرّرون من وجود ​حزب الله​ ونشاطه المقاوم، ويخشون من أن تؤدّي انتصاراته على «إسرائيل» وعلى تنظيمات ​الإرهاب​ التكفيري إلى تعاظم نفوذه السياسي ودوره الإقليمي وانعكاس ذلك سلباً على وجودهم ومصالحهم الذاتية.

إلى ذلك، تشاطر «إسرائيل» بعض الحكام العرب مخاوفهم من تزايد قدرات حزب الله العسكرية وتوسّع دوره الإقليمي، وانعكاسه سلباً على وجودها ومصالحها، كما على وجودهم ومصالحهم وتسعى، من بين أمور كثيرة، إلى بناء جبهة إقليمية لمجابهة قوى المقاومة العربية في ​فلسطين​ ولبنان وسورية و​العراق​ و​اليمن​، وإلى إقناع ​الولايات المتحدة​ بضرورة اضطلاعها بدور سياسي وعسكري واقتصادي فاعل في هذا المجال لكونها متضرّرة، شأنهم، من ​إيران​ التي تدعم سراً وعلناً قوى المقاومة العربية وتهدّد مصالح أميركا كما مصالح حلفائها في المنطقة.

الولايات المتحدة تدرك هذه الحقائق والمخاطر، وقد باشرت منذ عقود سياسة مجابهة إيران بفرض عقوبات قاسية عليها. كما قامت بتوصيف بعض قوى المقاومة، وفي مقدّمها حزب الله و«حماس»، بأنّها تنظيمات إرهابية، ولم تتوانَ عن دعم «إسرائيل» وغيرها في محاصرتها ومحاربتها.

اليوم تجد أميركا و«إسرائيل» وحلفاؤهما أنفسهم أمام واقع جديد متزايد الخطورة على مصالحهم. ذلك أنّ فشل سياستهم في دعم تنظيمات الإرهاب التكفيري في العراق وسورية قد صبّ في مصلحة قوى المقاومة العربية عموماً، ولا سيما في لبنان، الأمر الذي يستوجب، في نظرهم، احتواء هذه القوى في سياق العمل على تحييد بعضها وضرب بعضها الآخر.

في هذا السياق يدعو المتضرّرون من المقاومة إلى قيام الولايات المتحدة، تحت ستار دعم الجيش اللبناني في هجومه على «داعش» لتحرير جرود رأس بعلبك والقاع، بضرب قوات حزب الله العاملة مع ​الجيش السوري​ في الجرود السورية المقابلة للجرود اللبنانية، والعمل بعدئذ بالتعاون مع فريق ​14 آذار​ الموالي للغرب على تمديد سلطة القوات الدولية «يونيفيل» في ​جنوب لبنان​ لتشمل حدوده الشرقية مع سورية.

السيد حسن نصرالله وأنصار المقاومة في لبنان اعتبروا دعوة أميركا إلى دعم الجيش اللبناني ضدّ «داعش» بدعوى عدم قدرته على مواجهته، بأنها إهانة لهذا ​الجيش الوطني​ ودانوا مقاصدها الخبيثة. قادة «إسرائيل» لم يعلّقوا علناً عليها بعد، وإنْ كانوا يؤيدون مقاصدها ضمناً نظراً لتخوّفهم الشديد من القدرات والخبرات التي اكتسبها مقاتلو حزب الله خلال مشاركتهم في القتال ضدّ تنظيمات الإرهاب التكفيري في سورية وإمكانية إفادتهم منها في القتال ضدّ الكيان الصهيوني.

سياسيون ومراقبون في لبنان وسورية استبعدوا انزلاق الولايات المتحدة إلى ضرب قوات حزب الله في سورية لأسباب متعدّدة أبرزها خمسة:

ـ محاذير خرق سيادة سورية وأحكام القانون الدولي من دون قرار من ​الأمم المتحدة​.

ـ محاذير ضرب دولة حليفة ل​روسيا​ في وقت توصّلت أميركا إلى تفاهم معها حول سياسة «مناطق خفض التصعيد»، على مجمل أراضي سورية في سياق التمهيد لإنهاء الحرب.

ـ احتمال قيام سورية باستعمال صواريخ متطوّرة للدفاع الجوي كانت قد زوّدتها بها روسيا وإيران، الأمر الذي يشكّل لطمةً قاسية، سياسية وعسكرية، للولايات المتحدة.

ـ احتمال قيام حزب الله بردٍّ صاروخي قاسٍ على مصالح وازنة للولايات المتحدة في المنطقة.

ـ احتمال تطوّر الاشتباك إلى حرب إقليمية ليست في مصلحة أميركا و«إسرائيل».

هذه المحاذير وغيرها قد لا تُلجم ​دونالد ترامب​ عن ركوب مغامرة ضرب حزب الله في سورية. فهو ليس أقلّ جنوناً من الرئيس الأميركي السابق ​جورج بوش الابن​ الذي لم يتوانَ عن اختلاق كذبة فاجرة حول امتلاك العراق في عهد ​صدام حسين​ أسلحة نووية، وأكذوبة تحالفه مع «القاعدة» ليبرّر شنَّ حرب ضارية لا مجدية عليه ما زال شعبه يعاني حتى الآن من آثارها الكارثية.

يزداد هذا الاحتمال الجنوني قابلية مع استذكار حقيقة متكرّرة في تاريخ الولايات المتحدة هي أنّ لكلّ رئيس أميركي حربه الخاصة ضدّ مَن اعتبره، بحق أو بغير حق، تهديداً لبلاده ومصالحها. ولعلّ ترامب الذي يجد نفسه في تناقض متنامٍ مع الكونغرس، ووسط نفوذ متزايد من الرأي العام الأميركي، وفي غمرة عداء متعاظم من وسائل الإعلام، وتعثّر فاضح في أداء معاونيه… قد يجد نفسه، بتحريضٍ سافر من «إسرائيل» وأنصارها النافذين في أميركا نفسها، في وضع يغريه بشنّ حربٍ على قوى المقاومة العربية التي يعتبرها إرهاباً أكثر فعالية من الإرهاب التكفيري، وأنّ ضربها يؤدّي الى إضعاف إيران وكسر شوكتها وإنهاء تمدّد نفوذها الإقليمي، كما يساعده على استعادة زمام المبادرة السياسية في الداخل الأميركي.

إنّ هذا الخيار هو على درجة من الجنون سيحمل المؤسسات الأمنية الكبرى التي بات ترامب اكثر اعتماداً على قادتها الى تقدير فداحة الأخطار والأضرار الناجمة عن تنفيذه فيتخذون من الخيار الجنوني، بل من ترامب نفسه، موقفاً سلبياً قد يصل إلى حدّ التمرّد السافر عليه.

ليس هذا الموقف المحتمل وحده ما سيحمل ترامب على لجم جنونه، بل ثمة اعتبار آخر لن يغيب عن تفكير وتقدير قادة المؤسسات الأمنية الكبرى، وفي مقدّمها وكالة الأمن القومي و​وكالة الاستخبارات المركزية​، وهو أن يؤدّي ضرب حزب الله في سورية خلال عملية تعاونه مع الجيش السوري ضدّ «داعش»، إلى حمل قيادته على تفجير إحدى مفاجآتها الواعدة، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ «إسرائيل» لم تنجز بعد نقل مخزونها الضخم من الأمونياك في حيفا إلى مكان آمن.

الجنون فنون، وكذلك التعقل الذي يتقنه أصحاب العقول الكبيرة التي تُحسن قراءة الحاضر وترى إلى المستقبل البعيد، فتتفادى الانزلاق إلى مهاوي السياسات الطائشة أو تكون قد احتاطت واقتنت من وسائل القوة ما يمكّنها من ردع الطائشين والمجانين.