1- في 4 إبريل/نيسان 1996 زار الرئيس الفرنسي ​جاك شيراك​ ​لبنان​، وكان أوّل رئيس أجنبي يزور لبنان منذ انتهاء الحروب فيه في ال 1991 وأوّل رئيس فرنسي يزور لبنان رسميّاً منذ العام 1943 أي قبل عامين على إستقلال لبنان عن ​فرنسا​. إصطحبه الرئيس اللبناني الأسبق إلياس الهراوي إلى ​بكركي​ للصلاة واللقاء بالبطريرك صفير، وكان قد تجمهر في الساحة الخارجية مجموعات من المتظاهرين ينتظرونه ليستقبلونه صارخين بأصواتٍ عالية: جنرال . . . جنرال .

سأل شيراك الهراوي بعد الخروج من بكركي ترجمة ما يقوله المتظاهرون وهل أنّ اللبنانيين يحبّون فعلاً الجنرال ديغول إلى هذه الدرجة، على اعتبار أنّ كلمة جنرال هي الوحيدة التي فهمها شيراك من صراخهم . أجابه الهراوي بأنّهم يهتفون للجنرال ​ميشال عون​ ويطالبون بعودته من منفاه الفرنسي. إصفرّ شيراك مندهشاً وقال له: Allons donc أي ما يمكن ترجمته بالعربيّة: "يلاّ خلّصنا أو أمْشِ"، وروى الهراوي أنّ شيراك في طريق العودة من بكركي إلى مقرّ السفارة في ​بيروت​ كان يرفع يده ملوّحاً للمارّة في الشوارع ، وهذه لربّما من ظرافة الهراوي وتعليقاته الزحلاوية المنشأ المهضومة.

2- كان فولتير فيلسوف النهضة الفرنسية اللاذع مقيماً في منزلٍ كبير على الحدود بين فرنسا و​سويسرا​.نصف المنزل واقع في الأراضي الفرنسيّة ونصفه الثاني في الأراضي السويسرية. عندما كان يهاجم فرنسا الكاثوليكية يقعد في النصف السويسري من منزله، وينتقل إلى النصف الفرنسي منه عندما يهاجم السلطات البروتستانتية في سويسرا. والمعروف أنّ أفكار فولتير ونصوصه أرشدت نابليون بونابرت في

إلى مسائل جوهرية في قاموس "الثورة الفرنسية" مثل الديمقراطية والحريّة والعدالة والمساواة بين ​المرأة​ والرجل وغيرها من البضاعات المستوردة التي عرضت مؤخّراً في أسواق "​الربيع العربي​" وأورثتنا الخرائب والمصطلحات المجوّفة التي لا تاريخ تأسيسيّاً لها.

بنقطة حبر واحدة أصوّب هاتين القصّتين الواقعيتين نحو ثلاثة عصافير لا لأصطادها فأميتها أو أذعرها فأطيّرها بل لأنتف بعضاً من ريشها من دون أن أجرح حريّاتها أو أطمس تغريداتها، في زمنٍ مثقلٍ بالرعب والقتل:

أ- أمّا العصفور الأوّل فهو حمّى الكلام المتجدّد المتناقض في العلاقات اللبنانيّة السورية المتأرجحة بين "النأي بالنفس" من ناحية والاستغراق في العشّ السوري من ناحية ثانية، وهي تشبه في تصريحات السياسيين والإعلاميين ومواقفهم تنقّل فولتير في منزله بين الحدود السويسرية والفرنسية. صحيح أنّ الكثير من السياسيين اللبنانيين الذين كانوا يعترضون وبشدّة ضمناً على السياسة والأخطاء السورية، كانوا لا يتلفّظون حتّى بكلمة سورية نقداً في سياق أحاديثم جهراً أو همساً خلافاً للجنرال ميشال عون الوحيد الذي بلغ محرّم القول وأقساه في نقد سورية ومسؤوليها عندما كانت سورية في لبنان. عندما كنت تسأل هؤلاء: من فعل أو أمر بذلك ؟ أو لماذا حصل هذا ومن أمر به؟ كان الجواب يأتيك همساً أو بالإشارة: سويسرا شاءت ذلك ويقصدون بها سورية بالطبع، بينما اليوم يمكننا أن نوصّف لبنان بساحةٍ من الكبت الذي انفجر منذ ال 2005 مناخاً من التشفّي والكراهية لكلّ ما هو مباح ومستباح إلى درجة الإنقسام حول خراب سورية أوالتعديل الناشيء في موازين القوى والمسائل والمعضلات والمتغيرات والرعب من تفشّي ​الحرائق​ والمذابح بما ينسف البيت الفولتيري اللبناني ونحن نجتاز آخر الطريق الملتهب . صحيح أنّ معظم السياسيين في لبنان هم هم من دون تغيير كبير منتظر وهم يتحضّرون للبرلمان والوزارات، وما زالوا يتلذّذون بالقفز كما العصافير بين الغرف الخارجية الإقليمية والدولية مفتوحةً أو مقفلة،

معلّلين كلّ فعلٍ أو موقف، لكن الأصحّ من هذا كلّه أن هؤلاء يتناسون أنّ وطنهم ما زال عالقاً في مصعد غريب عجيب. ما تبقّى من اللبنانيين محشورون فيه مع ملايين ​النازحين السوريين​ و​اللاجئين الفلسطينيين​ وبقايا الخلايا النائمة الداعشية، وفوقهم الطابق السوري الملتهب منذ سبع سنوات وهو يشغل العالم وأعياه، وهم قد لا ينتبهون بأن الكهرباء قد انقطعت عن المصعد كما المياه ، وهم لا يستطيعون الخروج من هذا المصعد ولا النزول منه إلى الدور الأرضي، ولا يريدون الصعود إلى فوق لرؤية الحقائق الهائلة التي حفرت في الجسد السوري ولا تلك الآتية المحدقة ربّما بهدوء لبنانهم. هم ينتظرون من يرشدهم الى كلمة السرّ النهائية المشتّتة والمترجرجة بعد وكأنّها لم تنضج بين القوى الدولية والإقليمية الكثيرة المتنابذة والمتقاتلة والجانحة الى الحلول السلمية من حولهم .

ب- العصفور الثاني يلفّ بجناحيه أهل الحبر والشاشات والتغريدات في لبنان الذين يمعنون في سكنهم أيضاً في أكثر من غرفة وبيت، فتبدو رسوليتهم المستهلكة نوعاً من بيع المواقف والأشرطة والمقالات على الأرصفة التي يفترشها النازحون من بلادنا الى عواصم الدنيا المرعوبة من ​الإرهاب​. وهنا حقائق ثلاث: أولها أنّ ما يحصل من متغيرات تجاوز لبنان وسورية وليس من يعرف تماماً ما ستؤول إليه تلك الصراعات الطويلة . وثانيها أنّ تفريغ الإعلام من المثل والقيم والأوطان إلى إحتراف الإشاعات والأحاديث والأخبار والصور المركّبة السريعة المفبركة المشغولة التي تعمي البصائر وتزوّج الأكاذيب بالحقائق، هو نسف قاتل لمفاهيم السلطات المنزلية والمدرسية والتربوية والجامعية والقانونية والعسكرية والاقتصادية، ولا علاقة لها بكلّ الفكر الذي أنتجه فولتير وزملاؤه في عصر الأنوار.

ج- العصفور الثالث هي فرنسا التي عرف اللبنانيون عشّها وقشّها في قصر الصنوبر في بيروت، عندما أعلن منه المفوّض السامي الجنرال

الفرنسي غورو في أول سبتمبر/أيلول 1920 دولة لبنان الكبير، وفي هذا المكان ولدت ​الدولة اللبنانية​ ومؤسساتها، وكانت إحدى أول خمس دول في العالم تنضوي في المؤسسة الفرانكوفونيّة في العالم، وقد مكث في عاصمتها بيروت الجنرال ​شارل ديغول​. صارت فرنسا ماكرون مشغولة بحالها وأزماتها وترميم المنظمة الأوروبية ، فهل مسموح لنا ألاّ نسمع العالم وهو يبدّل ألسنته همساً أو جهاراً بحثاً عن الخروج من الأزمات الإرهابية الكبرى وفي رأسها السورية فلا نخرج أنفسنا من المصاعد التي علقنا ويعلق العالم كلّه فيها دولة وراء دولة فنعلن بأنّ إدارة مستقبل البشرية والعلاقات بين الدول والمجتمعات لا تقوم على "الفوضى الخلاّقة"؟.