ها نحن ذا نلتحفُ الحزنَ في موطِن موتنا السريري. ها نحن ذا ندمعُ بلا توقُّف. وكأني بدمعِنا متآمرٌ علينا. يُهينُ ذكوريّتَنا. يؤرقُنا في أسرّتنا. يبلّلُ مخدّاتنا. يقتلُ عنفوانًا فينا. يخدشُ وجناتنا. يصفعُنا خيرَ صفعاتٍ بعد أن يبحثَ فينا عن شذرات إنسانية، وطنية، حبٍّ ولا يجد. أهوَ انعدامُ الإنسان فينا؟ أهوَ موتُ الإنسانِ فينا؟ أهو وهنُ الإيمان فينا؟ أهيَ سُلطة الدمع تقمع ما عداها من سلطات الروح ولا تملّ؟

في الأمس رحل للوطنِ أبناء. في الأمس رحل لنا أبناء ومعهم رحل كثيرٌ من قيم. كثيرٌ من روح. كثيرٌ من تصالحٍ مع الذات. كثيرٌ من “نحنُ” يُهريها دودُ “الأنا”.

ها نحن ذا نقفُ دقيقةَ صمتٍ أمام دهور غُصّة. نحمل كمشة أرزّ، نرميها على أكتافٍ تحمل صخرةَ معاناة. ما أصغرَنا أمام الاستشهاد. ما أوضعَنا أمامه. ما أقذرنا أمامه. نشعرُ وكأنّ الحياة لا تليق بنا. نخجلُ عندما يلفّ علمٌ نعشًا. نخجلُ من حقيقة أننا أحياء عندما يرفعُ رفقاء السلاح خشبةً وصورةً لوجهٍ لا يحمل من قساوة السلاح نتفةً أو نُطفة. تحت التراب يتقلّبُ شرفٌ. يُسمَع أنينٌ من هناك. من ذاك البعيد الغارب عن وجوهنا ووجوه ناسِه. من ذاك البعيد في السنوات ثلاثًا وفي القلب دهرًا...

لو وقفنا دهرَ صمتٍ لن يعودَ نعل حذاء جنديٍّ واحد حاكمًا على ثلة حثالة.

لو وقفنا دهرَ صمتٍ لن يبردَ قلبُ أمٍّ سكنها الانتظار وحتى اللحظة يرفض هجرَها.

لو وقفنا دهرَ صمتٍ لن تؤمَّ دمعةُ أبٍ عصيّةٌ موضعَها.

لو وقفنا دهرَ صمتٍ لن تصحوَ إنسانيةٌ مؤجّرةٌ فينا.

لو وقفنا دهرَ صمتٍ لن نفيَ الباسلَ حقّ بسالته، والمضحّي حقّ تضحيته.

لو وقفنا دهرَ صمتٍ لن تتبدّل في أحوال ترابِنا حالٌ... حُكِم على ترابنا أن تعجنه خميرةُ حبٍّ. خميرةُ شرفٍ. حُكِم على ترابِنا أن يعانق أنينَ حيٍّ فوقه وحسرةَ شهيد تحته... حُكِم على ترابِنا أن يكون طاهرًا طهرَ جثامينهم حتى لو داسته أقدامُ الأنجسين.

* عن أرواحهم... وإليها