كثيرة هي المقالات والتحليلات والتصاريح والمواقف التي تناولت إستقالة رئيس الحُكومة سعد الحريري، لكنّ هذه الإستقالة على أهمّيتها بالنسبة إلى الداخل اللبناني، تبقى تفصيلاً صغيرًا ضُمن الصراع الإقليمي الشرس والمفتوح بين إيران والسعوديّة. وهذه هي أبرز ساحات هذا الصراع المُرشّح للتصاعد في المرحلة المقبلة في أكثر من مكان:
في سوريا، وبعد مرور ستة أعوام ونصف على تفجّر الحرب، فشلت السعودية في إسقاط حُكم الرئيس بشّار الأسد، بفعل الدعم الإيراني للنظام بالمال والسلاح، وخُصوصًا بالمُقاتلين والخبراء، قبل أن يُسفر التدخّل العسكري الروسي المُباشر في الحرب عن قلب مَوازين القوى كلّيًا، وليس فقط عن إفشال مُحاولة إسقاط النظام، خاصة وأنّ صراعات النُفوذ، مُضافًا إليها تضارب المصالح بين كل من السعودية وقطر وتركيا، أدّت إلى تشرذم الجماعات المُسلّحة المُعارضة وتقاتلها في ما بينها. وبعد تعزيز سيطرتها المُباشرة في سوريا، أمسكت إيران بمزيد من أوراق أزمة الشرق الأوسط، على حساب تراجع أوراق السعودية في المنطقة.
في اليمن، وعلى الرغم من مرور أكثر من عامين على الحرب الأهليّة المُدارة من الخارج، فإنّ القوّات الحُكوميّة المدعومة من التحالف الذي تُقوده السعوديّة تُسيطر على العديد من المُحافظات الجنوبيّة والشرقيّة وعلى إمتداد نحو 70 % من مساحة اليمن الإجماليّة، لكنّ ميليشيات "أنصار الله" المدعومة من إيران تُسيطر على العاصمة صنعاء وعلى أغلبيّة المُحافظات الشماليّة والغربيّة والتي تضم نحو 80 % من سُكان اليمن. ومع إستمرار مدّ إيران لميليشيات "أنصار الله" وتوفير التدريب لهم، لم تستطع السعوديّة فرض سيطرتها على كامل اليمن، خاصة بعد وقوف القوّات النظامية التي لا تزال مُوالية للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح إلى جانب المُقاتلين الحَوثيّين، إنطلاقًا من مصلحة مُشتركة تتمثّل في تقاسم السُلطة على الأرض وفي العداء للسعوديّة أيضًا. وإضافة إلى نجاح إيران في إستنزاف السعوديّة عسكريًا وإقتصاديًا وماليًا في اليمن، فإنّها شكّلت لها خطرًا عسكريًا حُدوديًا جدّيًا، حيث يتمّ دوريًا إطلاق صواريخ باليستيّة مُتوسّطة وبعيدة المدى نحو السعوديّة، وتنفيذ هجمات على قرى وبلدات حُدوديّة فيها أيضًا، ردًا على غارات قوّات التحالف في اليمن.
في العراق، ومع تراجع سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي بشكل كبير إلى نحو 5 % من إجمالي مساحة البلاد، ونجاح ميليشيات "الحشد الشعبي" المُسلّحة والمُدرّبة والمدعومة من إيران في إستعادة كامل الأراضي التي كانت بحوزة "داعش" بموازاة دور رمزي ومحدود للجيش العراقي النظامي، صار النُفوذ الإيراني مُتعاظمًا، في مُقابل مُحاولة خجولة للسعودية لدخول العراق من بوّابة الإتفاقات التجارية والإقتصاديّة. وقد أغاظت سيطرة طهران على القرار السياسي في بغداد، وُحضورها العسكري عبر ميليشيات حليفة، السعوديّة التي باتت تشعر أنّ أمنها مُهدّد مُباشرة من حدودها المُشتركة مع كل من اليمن والعراق.
في لبنان، وبعد نحو عقد كامل من عمليّات شدّ الحبال بين محوري "8 و14 آذار"، والتي لم تخلُ من التفجيرات الإرهابيّة ومن الإغتيالات الغادرة التي طالت بأغلبيّتها رجال "ثورة الأرز"، دخل لُبنان في تسوية تمثّلت بإنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجُمهوريّة وبتكليف النائب سعد الحريري رئاسة حكومة "إستعادة الثقة" التي ضمّت أغلبيّة عدديّة من أحزاب وشخصيّات قوى "8 آذار". وبفعل المنحى التصاعدي لتفاقم الإختلال في موازين القوى داخليًا وإقليميًا، إزداد نُفوذ "حزب الله"-ومن خلفه إيران، أكثر فأكثر في لبنان والمنطقة، بموازاة تراجع النُفوذ السعودي، وتمّ تسجيل مُحاولات جدّية لإدخال لبنان ضُمن المحور الإيراني، الأمر الذي دفع الرياض إلى تصعيد لهجتها إزاء لبنان واللبنانيّين وُصولاً إلى إستخدام ورقة نُفوذها لدى "تيّار المُستقبل"، في مُحاولة لإعادة خلط الأوراق في لبنان وتوزيعها وفق مجموعة من الأسس المُتوازنة الجديدة، وبهدف مُحاولة لجم "الحزب" الذي يُناصبها العداء بشكل علني معروف، والذي تتهمه بهزّ الإستقرار وبتعريض مصالحها للخطر ليس فقط في الدول المذكورة أعلاه، بل أيضًا في البحرين وُصولاً حتى إلى داخل السعوديّة نفسها.
في الخلاصة، إنّ من ينتظر إنتهاء الأزمة المُستجدّة في لبنان، من بوّابة المُعالجات الموضعيّة المحدودة وعلى الطريقة اللبنانيّة المُعتادة لظروف إستقالة رئيس الحُكومة، ولارتداداتها أيضًا، سيُصاب على الأرجح بخيبة أمل، لأنّ الصراع الحقيقي هو في مكان آخر، وسيدفع اللبنانيّون ثمن إختلال توازن النُفوذ الإقليمي لكل من السعودية وإيران، في كل من لبنان والعراق واليمن وسوريا وغيرها من دول الإقليم.