شهدت محافظة السويداء أحداثاً دامية هزّت المنطقة بأسرها وأثارت مخاوف إقليميّة واسعة، وصلت حصيلتها وفق بعض المصادر الى حدود الالف قتيل. لا شك ان هذه الاحداث المأساوية كانت نتيجة سوء الادارة والفراغ الذي حصل نتيجة اسقاط نظام بشار الاسد، والتعاطي الخاطئ جداً مع المسألة، بحيث تم حلّ الجيش والاعتماد على منظمات مسلّحة من المرتزقة ومن الجماعات الارهابيّة لتكون "قوى رسميّة" تستلم زمام الامور، وحالة اللاثقة التي تعاني منها ​سوريا​ بفعل المخاوف السائدة بين مختلف مكونات الشعب السوري من جهة، والقوى التي تقدّم نفسها على انها الشرعية والدولة من جهة ثانية، في ما يمكن وصفه بفشل الحكومة الانتقالية في إرساء سيطرتها الكاملة على الأراضي السورية.

حدود ما حصل تخطّى السويداء والحدود السورية (بنسختيها: المعروفة وتلك التي يتم العمل على تغييرها حالياً)، ووصلت الى الجار الاقرب لسوريا، اي لبنان. ومن الطبيعي ان تغلي دماء ​دروز لبنان​ من الواقع الذي يعيشه دروز سوريا، لان الترابط التاريخي والاجتماعي بين جماعتي السويداء ولبنان، يخلق ردة فعل عاطفية قوية بين الاثنين. اما الامر الآخر الذي يحسب له حساب، فهو الأعداد الكبيرة للاجئين السوريين في المناطق ذات الأغلبيّة الدرزيّة في لبنان، وما يمكن ان يسفر عنه ذلك من مواجهات تضع الاستقرار الامني في مهب الريح، على ابواب صيف وعد فيه المسؤولون اللبنانيون انه سيكون مزدهراً وواعداً (من دون ان ننسى ابداً واقع النازحين السوريين في لبنان، والذين لن يعودوا الى بلادهم في ظلّ تسلم المسؤولين الحاليين للسلطة هناك، وسيعمدون الى استغلال الواقع الميداني للقول بأن عودتهم ليست آمنة، وان حياتهم في خطر والافضل لهم بالتالي البقاء في البلد). ولا يجب ان ننسى انه في لبنان، لا يقتصر التهديد على الدروز وحدهم، بل قد تؤثر على النسيج الطائفي اللبناني برمته. فالنموذج السوري الذي يشهد انهيار الدولة قد ينتقل إلى لبنان، خاصة مع الأوضاع الاقتصادية والسياسية الهشة التي يمر بها البلد، وفي ظل المحاولات الخجولة التي لم تنجح بعد، في اعطاء الدولة دفعة معنويّة اساسيّة للعب دورها كاملاً. ويبدو ان الزيارة التي "تسرّع" فيها النائب السابق وليد جنبلاط لجهة لقائه وعدد من المشايخ والفاعليات الدرزيّة في لبنان، الرئيس الانتقالي لسوريا احمد الشرع (ابو محمد الجولاني)، لم تؤتِ ثمارها، لانّ الهدف منها كان حماية الدروز في السويداء، فإذا بهم في وضع اكثر خطورة مما كانوا عليه قبل الزيارة!.

وهؤلاء باتوا اليوم بمثابة مادة دسمة لتبرير كل شيء، وهذا ما استغلته اسرائيل التي اطلقت شعار: "حماية الدروز"، ومنذ سقوط نظام الأسد، استولت على المزيد من الأراضي السورية، وأعلنت انتشار قواتها في جنوبها بزعم حماية المناطق الدرزية. هذا الواقع يكشف النوايا الحقيقية لتل أبيب، ويؤكد أن الهدف الأساسي ليس الحماية بل التوسع الجغرافي والنفوذ السياسي، وهي تستغل ​الفوضى السورية​ لتحقيق مكاسب استراتيجية طويلة المدى. ولا تكتفي بضم المزيد من الأراضي السورية، بل تسعى إلى إنشاء "منطقة آمنة" تحت سيطرتها، وهي أراضٍ لن تنسحب منها أبداً.

وفي نظرة موضوعيّة بعد هذا الواقع السياسي والميداني، يمكن القول ان احداث السويداء كشفت عن ثلاثة امور رئيسية: فشل الحكومة السورية الجديدة في إدارة التنوع الطائفي والعشائري بطريقة سلميّة، وهشاشة الوضع في المنطقة وسهولة انتقال الصراعات عبر الحدود، واستغلال القوى الإقليميّة للأزمات الداخليّة لتحقيق مكاسب جغرافيّة وسياسيّة. معالجة هذه النقاط تتطلب اولاً التوقف عن خداع العالم والقول ان الشرع (ابو محمد الجولاني) هو الحل ويسيطر على بلاده وقادر ان ينقلها من حالة الى اخرى، والبدء بالتخطيط لقيام نظام جديد يتعامل مع الواقع السياسي والميداني بعقلانية وموضوعية ويضع حداً لتفلّت المرتزقة من المنظمات المسلحة المختلفة التي تسرح وتمرح هناك. اضافة الى اقتناع الولايات المتحدة الاميركية واوروبا واسرائيل ان الحل ليس في زيادة الفتن والاحداث فيها، بل في تفكيك المشاكل ورواسب الماضي، واقناع السوريين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والدينية بالثقة بالسلطة الجديدة، والعمل على نسج اتفاقات مع لبنان والدول العربية المجاورة تفضي الى اراحة الاوضاع على الحدود المشتركة وتفعيل التعاون والتنسيق على كل المستويات، بدل الاستقواء بالخارج والتكلم بلغة المسيطر، بينما تشير الدلائل كلها الى ان السيطرة على الامور هي آخر ما يمكن ان يدّعيه الذين يتولون السلطة في دمشق حالياً.