عنوانٌ يَضَعُنا أمام تساؤلٍ وجوديّ كيانيّ يَصُبُّ في عُمقِ إيمانِنا المسيحيّ: لماذا تجسَّد الكلمةُ؟ وما هو الدّافع وراء هذا الحدث العظيم؟.

للجوابِ على هذه التساؤلات لا بدّ لنا من العودةِ إلى بدايات الخليقة إلى السِفر المقدَّس الذي يَصِفُ لنا بسَردٍ رائع مُجريات عمل الله تعالى في الخلق. فبعد اليوم الخامس، فكّر الله في خلقِ الإنسان، فقال: "لنَصنعِ الإنسانَ على صورتنا كمثالنا"(تك 1: 26). لنَقُمْ بتشريح هذا النصّ الكتابيّ المليء بالمعاني الروحيّة من وُجهة نظرٍ مسيحيّة لاهوتيّة. إنّ الفعل المُستَعمل "لنصنع" يدلُّ على صيغة الجمع وكأنّ الله عبارة عن جماعة تُفكِّرُ وتَعملُ. في لغتنا العربيّة، يُستَخدمُ الفعل بصيغة الجمع دلالةً على الاحترام الذي يُعطيه الخطيب للمخاطب وبخاصّة حين يُخاطبُ إنسانًا له مركزُه الاجتماعيّ أو الدينيّ أو ... فهل الله بحاجة إلى هذا النوع من المخاطبة؟.

من المؤكَّد أنّ هناك معنىً ذا دلالةٍ لاهوتيّة في استعمال الله لصيغة الجمع في نصّ سِفر التكوين: إنّه، من وجهةِ نظر المفسِّرين والشارحينَ للكتاب المقدّس، يدلُّ على عقيدةٍ هامّة جدًّا في المسيحيّة هي الله الثالوث: الآب والابن والروح القدس. فإذا تَمَعَّنا جيدًّا في النصّ الكتابيّ نَجِدُ هذه الحقيقة واضحةً وضوحَ الشمس، وتأتي على الشكلِ التالي:

†الله الآب هو الخالق: "في البدء خَلَقَ الله السَّماوات والأرض"...(الفصل الأول من سفر التكوين)؛

†الله الابن هو الكلمة التي من خلالها تمّ فعلُ الخلق حين نَطَقَ الله بالفعل "قال" (مذكور 9 مرات في الفصل الأول من سفر التكوين) ليأتي القدّيس يوحنا الإنجيليّ ويُعيدَ قراءةَ هذا النصّ الكتابيّ بدلالةٍ واضحة على أنّ الكلمة التي كوَّن بها الله الخليقة هو يسوع الكلمة الإلهيّة المتجسِّد: "به (أي بالكلمة) كان كلُّ شيء، وبدونه ما كان شيءٌ ممَّا كان"(يو 1: 3)؛ ولا بدّ من الإشارةِ أيضًا إلى النّشيد الذي كَتَبَهُ بولس حول أوليَّةِ المسيح في رسالته إلى أهل كولسي، قائلاً: "ففيه خُلِقَ كلُّ شيء ممّا في السَّموات وممّا في الأرض ... كلُّ شيءٍ خَلِقَ به وله" (كول 1: 16).

†الله الروح القدس هو روحُ الحياة، الروح المُحيي: "وجبلَ الربُّ الإله الإنسانَ تُرابًا من الأرض ونَفَخَ في أنفه نَسَمَةَ حياة، فصارَ الإنسانُ نَفسًا حيَّة" (تك 2: 7).

إلا انّ الفصل الثالث من هذا السِفر يُطالِعُنا بمفاجأةٍ قَلَبَتْ مسارَ حياةِ الإنسان المخلوقِ على صورة الله ومثالِه وأوقَعَتْ به رهينةً بين يدي الحيّة التي تُمثِّلُ مِحورَ الشيطان والشرّ. فهذا الفصل يتضمَّن الحريّة الإنسانيَّة والمسؤوليَّة في التقيُّد بتعليمات الله ووصاياه؛ فالله خَلَقَ الإنسانَ حرًّا ومَنَحَهُ السلطة على جميع خَلقِه، وأعطاه أن يأكلَ من ثمرِ أشجار الجنّة إلا من ثمرِ الشجرة التي في وَسَطِ الجنة، هذه هي وصيّة الله. إلا إنّ آدم وحوّاء فضَّلا أن يتبعا مشورةَ الحيّة وغضَّا النظرَ إلى وصيّة الله وأكلا من الشجرة "فانفتحتْ أعينُهما فعرفا أنَّهما عُريانان" (تك 3: 7). للعري أهميّة في الكتاب المقدّس إذ يرمزُ إلى شخصيّة الإنسانِ الحقيقيّة غير المقنَّعة والمزيّفة أمام الله الحقيقة المطلقة، ولذلك خَجِلَ آدمُ وحوّاء من عريِهما أمام الله لأنّهما لَبِسا أقنعةً مزيَّفة وعَرَفا ليس أنّهما عريانان بل أنّهما أصبحا في حالةٍ جديدة مُقَنَّعة بعيدةٍ عمّا أراد لهما الله. هذه الحالةُ الجديدة التي لَبِساها هي الخطيئة، الموت، الغربة عن الذات الحقيقيّة والنّفي من الوطن الحقيقيّ "السّماء" إلى المنفى "الأرض".

مع كلّ هذا بَقِيَ اللهُ أمينًا إذ وَعَدَ حوّاء أنّ من نسلِها سيأتي من يَسحَقُ رأسَ الحيّة: "وأجعلُ عداوةً بينكِ (أي الحيّة) وبين المرأة وبين نسلِكِ ونسلِها، فهو يَسحقُ رأسَكِ وأنتِ تُصيبينَ عَقِبَهُ" (تك 3: 15). هذا كان بَصيصَ الأملِ للإنسان لتحريرِه من قبضةِ الشيطان وإعتاقِه من العبوديّة المرَّة إذ أصبح عبدًا للشرّ وخادمًا للخطيئة وحيًّا للموت.

ثم جاء النبي أشعيا ليُطلِقَ نبوءتَه الشهيرة عن مجيء المسيح من عذراء إذ قال: "ها إنّ ​العذراء​ تَحمِلُ فتَلِدُ ابنًا وتَدعو اسمَه عمَّانوئيل" (أش 7: 14) وكأنّي بهذا النبي يقرأُ بتمعُّنٍ وتأمُّلٍ آية الوعد بالخلاص الآنفة الذكر. هذا هو الأساس: أن ننطلِقَ من قراءةِ هذه النبواءت التي قِيلَت عن المسيح ونرى تحقيقَها الذي تمّ بالكلمةِ الإلهيّة المتجسِّد ​يسوع المسيح​ في العهد الجديد.

مما لا شكّ فيه أنّ الرسل قرأوا العهد القديم كمِثلِ أيِّ يهوديٍّ آخر. وقد شكَّلَ هذا نقطةَ الانطلاق في فهمِ هويّة المسيح المُنتَظَر التي لم تتوضَّح معالمُها إلا بعد القيامة، ذلك أنّهم أي الرسل أعادوا قراءةَ العهدِ القديم على ضوء حدثِ قيامة يسوع من بين الأموات.

أودُّ أن أتوقَّفَ عند كتابات يوحنّا وبولس اللذين يَسبُرانِ غَورَ هذا السرِّ العظيم، سرِّ تجسُّد الكلمةِ الإلهيّة في شخص يسوع. فيوحنّا اختصرَ في مقدّمة إنجيله سرّ التجسُّد الإلهيّ بقوله: "في البدء كان الكلمة، والكلمةُ كان لدى الله، والكلمةُ هو الله ... والكلمةُ صارَ بشرًا، فسكنَ بيننا"(يو 1: 1، 14). فيسوع الكلمة هو "صورةُ الله الذي لا يُرى" على حسب تعبير بولس في رسالته إلى أهل كولسي(كول 1: 15). الله الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يرى وجهَه ويبقى حيًّا، الله الذي اتّخذَ السَّماواتِ عرشًا له، هو الله نفسُه الذي تنازلَ وأخلى ذاتَه بيسوع الكلمة آخذًا صورةَ عبدٍ. يا لها من قراءةٍ إيمانيّة لبولس الذي وَصَفَ هذا السرّ العظيم بكلماتٍ تفوق الوصف والإدراك، إذ قال: "هو الذي في صورةِ الله لم يَعُدَّ مساواتَه لله غنيمة، بل تَجَرَّدَ من ذاته متَّخذًا صورةَ العبد، وصارَ على مثالِ البشر، وظهرَ في هيئة إنسانٍ"(فيل 2: 6-7). إخلاءُ الذات هذا أو التجرُّد من الذات يَهدِفُ في أساسِه إلى إعادةِ ترميم العلاقة المنقطعة بين الله والإنسان وبالتالي إلى إعادة الإنسان إلى وطنِه الحقيقيّ، إلى الحظيرةِ الأبويّة. هذه هي ثمرةُ التجسُّد الإلهيّ: أن يَعي الإنسانُ هويَّتَه الحقيقيَّة ودعوتَه الإلهيّة: إنَّها دعوةٌ إلى خَلعِ الإنسانِ العتيق مع أعماله (البغض، الكبرياء، الأنانيّة، التعجرف، الحقد، اللسان الباطل، الشهوات...) ولَبْسِ الإنسانِ الجديد الذي على صورةِ المسيح (الوداعة، التواضع، المحبّة، المغفرة، التسامح، التوبة، المشاركة، الانفتاح، المبادرة...). هنا، أودُّ أن أُركِّزَ على مفهوم "المبادرة". كما اللهُ بادرَ وتنازلَ إلينا غافرًا لنا ذنوبَنا ومعاصينا، هكذا يجب على الإنسان أن يُبادِرَ تجاه أخيه الإنسان غافرًا ما صَدَرَ منه عليه. لا تَنتَظِروا أن يُبادرَ الآخر إليكم، بادِروا أنتم بالحريّ نحوهم، أَعيدوا فتح الأبواب التي أُغلِقَت قديمًا وأنا أعني بالأبواب هنا "القلوب": لا ميلاد بدون غسيل القلوب الذي يتمّ بالمغفرة والتسامح. كيف لا ونحن نصلِّي يوميًّا الصلاة الربيّة التي علَّمنا إيَّاها يسوع وكيف لا نتوقَّفُ خاشعين وصامتين أمام العبارة "واغفِر لنا خطايانا كما نَغفِرُ نحن". علينا أن نُقيِّمَ أنفسَنا على ضوء هذا الحدث العظيم، لا أن يَمُرَّ مرورَ الكرام أو أن نعيشَه بوثنيّةٍ بحت بعيدًا عن معانيه الروحيّة الكثيرة.

في الخِتام، أودُّ أن أُلخِّصَ ما وَرَدَ في مقالتي هذه بطريقة الأفكار، أي أنّ كلَّ فكرة تكون منفصلةً عن الأخرى ولكنّها تَهدِفُ كلَّها إلى إبرازِ معاني هذا الحدثِ العظيم وكيفيَّة التعامل معه وعيشه:

- في الميلاد يؤمن المسيحيون بأن الله ليس فكرة، أو تصورًا، أو مثالاً نظريًا، أو حالة رفيعة، أو ناموسًا مهيمنًا، أو طاقة كونية، بل هو صلةُ حبٍّ، وعلاقةُ ودّ، ومصدرُ حياة وإشعاع.

- الطريق إلى الله هو طريق اللقاء الشخصي. ففي الميلاد يُدرِكُ المسيحيون أن ديانتَهم ​المسيحية​ هي ديانةُ اللقاءِ الشخصي بحيث تَتَعَزَّزُ فيها سمات الإيمان والالتزام الشخصي والبحث الحر.

- في حدث الظهور الإلهي يتجلّى للإنسان بعض من سمات الالوهة. فالألوهة في المسيحية ليست هي في المقام الأول اقتدار الفعل القاهر، ولا فرادة الكيان الخارقة. ففي الميلاد يدرك المسيحيون أن الألوهة هي قبل كل شيء رقة وحنان، ولطف ووداعة، ووهب وجود. ألوهة الميلاد في المسيحية هي ألوهة فيض الحب، وألوهة العشق الإلهي، وألوهة الثقة الكاملة بالإنسان.

- في الميلاد يُدرِكُ المسيحيون أنّ سبيلَ الحبِّ الإلهي هو السبيلُ الوحيد الذي يقودُ الإنسانَ إلى تجاوز غربتِه عن ذاته وتجاوز غربته عن الآخرين وتجاوز غربته عن الله. فغايةُ الظهور الإلهي أن يختبرَ الإنسانُ أن الله يحبه في إنسانيته، وأنّ الحب هو وحده قادر على إلغاء القطيعة الناشبة بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان والآخرين، وبين الإنسان والله. أمثولةُ الميلاد أنّ الحبَّ يَبلُغُ بالله عينِه مبلغَ المغامرة بكيانه والدخول في مجرى الانعطاب البشري، إذ لا شيء يستوقف الحب حين يروم أن ينقذ المحبوب من تجربة الشك في صدق الحبيب.

- على قَدْرِ ما يولدُ اللهُ في الإنسان، يولدُ الإنسانُ في الله. ومعنى هذه الولادة الإنسانية أنّ الحياة الإنسانية تقترب بعمق فكرها وخصوبة قولها وجمال فعلها من الحياة الإلهية التي ظهرت لنا في شخص يسوع المسيح. ومثلُ هذه الولادة الإنسانية في الله تقتضي على الدوام من الإنسان المؤمن تجديدًا وإبداعًا. ولذلك كان الميلاد، ميلاد الله في الإنسان وميلاد الإنسان في الله، هو حدث الوعي والصحوة والالتزام.

من هنا، فإنّي أدعو الجميعَ إلى عيشِ هذا الزمنِ المقدَّس بخشوعٍ وتقوى بالصَّلاة والصّوم والعبادة وأن نَفسحَ المجال لطفلِ المغارة أن يَنصُبَ خيمتَه في قلوبِنا فيَنفُضَ منها غُبارَ السنين التي عِشناها بعيدًا عنه ويُنظِّفَ عَفَنَ قلوبِنا من جرَّاء تعشيشِ الخطيئة فيها، طالبًا من هذا الطفل الإلهيّ أن يمنحَكم وعائلاتكم مزيدًا من المحبَّة والأُلفة والتكاتف وأن يبقى سورًا مَنيعًا في وجهِ ما تعيشُه عائلاتُنا من تفكَّكٍ روحيٍّ وأخلاقيّ.

أُناشِدُكم وأُحرِّضُكم باسم ربِّنا يسوع المسيح أن تَفتحوا الأبوابَ أمام المسيح ليدخلَ إلى عمقِ عائلاتكم وبيوتكم ليجعلَ منها كنيسةً مصغَّرة. آمين

*الرئيس الروحي للروم الكاثوليك في حيفا