مع نهاية كل عام، تخرج علينا فجأة مجموعة من الأشخاص الذين يدّعون التمتّع بقُدرات إحساس وتبصّر خارقة، وبالقُدرة على إستشراف المُستقبل وقراءة أحداثه، بتسويق مُباشر من قبل بعض وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة وخُصوصًا المرئيّة، والأخيرة هي الأخطر لأنّها تقوم بتحقيقات مُخادعة يلعب "المونتاج" دورًا كبيرًا في تزوير وقائعها لخداع الرأي العام. وهذه الظاهرة التي ساهمنا في موقع "النشرة" في مُواجهتها وفي فضح خفاياها دوريًا، تراجعت فعاليّتها وتأثيراتها في نُفوس المُتلقّين في السنتين الأخيرتين، لكن من دون أن تنطفئ شمعتها كليًا، ما يستوجب إستمرار حملات التوعيّة.

إذًا، من قراءة فنجان القهوة بعد قلبه وتفسير الخطوط المرسومة من بقايا التفل والبن تحت عنوان التبصير، مُرورًا بقراءة الكف وخطوط اليد وتقسيماتها للحديث عن المُستقبل، وبخلط أوراق اللعب لكشف المصير وقراءة الطالع، وُصولاً إلى التحدّث مع أشخاص أو كائنات غير موجودة، لإيهام الضحيّة بأنّه نوع من التواصل مع "الجنّ"، وغيرها من الأمور... مجموعة واسعة من الخدع وأساليب الغشّ والسخافات يقوم بها المُدّعون بالتمتّع بقدرات خارقة، بهدف كسب الأموال من البُسطاء ومحدودي العلم والثقافة في أغلبيّة الأحيان، ومن محبّي التسلية والترفيه السطحي الخفيف في أحيان أخرى.

لكن مع التطوّر التكنولوجي، وتنامي تأثير دور محطات التلفزة على المُتلقّين، وإنتشار وسائل التواصل الإجتماعي بشكل واسع، أخذ "التبصير" منحى أكثر خُطورة مع إنضمام فئات جديدة من "المُبصّرين"، أي الذين يُطلق عليهم إسم "المُنجّمين"، وكذلك مع تحوّل التفاهات التي ينطقون بها من على شاشات التلفزة إلى مادة نقاش جدّية في صُفوف الكثير من المُواطنين الذين يقعون بسهولة في الخداع المُشترك والمُنظّم بين بعض وسائل الإعلام من جهة، ومُدّعي كشف الغيب وقراءة المُستقبل من جهة أخرى، وذلك لأهداف مُرتبطة بالكسب المادي وبتحقيق أعلى نسب مُشاهدة بالنسبة للفريق الأوّل، ولأهداف مُرتبطة بالكسب المادي وبتحقيق الشهرة للفريق الثاني.

أكثر من ذلك، وبعد أن كان مُدّعو ​التنجيم​ يُوحونبأنّ تحرّكات الكواكب والأجرام السماوية تؤثّر مُباشرة على الحياة فوق كوكب الأرض، وتؤثّر في تصرفات الناس وقراراتهم، الأمر الذي يفتقر إلى أي دليل علمي أو حجّة حسّية، مع بعض الإستثناءات المحدودة مثل التأثير على حركة المدّ والجزر للمياه مثلاً، صار اللجوء إلى النجوم والإدعاء أنّه تحليل مبني على أسس علميّة، غير مشوّق كثيرًا، ما دفع الجيل الجديد من مُدّعي التنجيم إلى زعم مُشاهدتهم لرؤى من المُستقبل، ليكشفوا لعامة الناس ما ينتظرهم من أحداث، وهذا التطوّر في نوعيّة "المُنجّمين" ليس محلّ تشكيك فحسب من قبل العلماء، بل محلّ سخرية وشماتة أيضًا.

وللمرّة الألف نقول إنّ مُدّعي التنجيم يعتمدون على مصادر حسّية مئة في المئة وغير خارقة لجلب المعلومات، ويبنون التقديرات للمُستقبل بناء على تحاليل صحافيّة، ويُغلّفون كل ذلك بقالب مُخادع، بالحديث عن رؤية هنا وعن إلهام هناك، وبارتداء لباس أسود هنا وبالإيحاء بالتواصل مع أرواح هناك! وعلى سبيل المثال إنّ "بصّارة برّاجة" من بين هؤلاء كانت تتحدّث عن "جان" ل​رئاسة الجمهورية​، بناء على تحليل سياسي يقول إنّ تحالف رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي ورئيس "​الحزب التقدمي الإشتراكي​" ​وليد جنبلاط​، سينجح بإقناع الجميع بإنتخاب النائب ​جان عبيد​ رئيسًا للجمهورية بعد أن نأى بنفسه عن الصراعات الداخلية على مدى سنوات طويلة، وفي حال الفشل سيفرض المُجتمع الدَولي قائد الجيش السابق ​جان قهوجي​ رئيسًا، للحفاظ على إستقرار لبنان. لكنّ هذا التحليل الصحافي الذي كان منطقيًا نوعًا ما خلال فترة ​الفراغ الرئاسي​، سقط بعد التحوّل الجذري في موقف "القوّات اللبنانيّة" بدعم ترشيح "الجنرال" للرئاسة، ثم بعد مُوافقة "تيّار المُستقبل" على ذلك بعد بضعة أشهر بناء على تسوية ثنائيّة، أضيفت إلى تمسّك "​حزب الله​" بترشيح العماد عون على حساب ترشيح النائب سليمان فرنجيّة. وعندما أكدّت هذه "البصّارة" أنّ المُرشّح الجُمهوري ​دونالد ترامب​ لن يصل إلى رئاسة ​الولايات المتحدة الأميركية​، كما أنّ العماد ​ميشال عون​ لن يصل إلى رئاسة لبنان، كانت تتحدّث أيضًا إنطلاقًا من تحاليل صحافية غربيّة لم تتوقّع بدورها أن تقع كلينتون ضحية إرسال وثائق سرّية عبر بريدها الإلكتروني غير المُشفّر، وضحيّة ميل أغلبيّة الشعب الأميركي نحو خطاب عنصري ضُدّ "الغرباء" والمُسلمين، إلخ. وتخبيصات "البصارة – البرّاجة" لم تنته عند هذه السقطات الرُؤيويّة – إذا جاز التعبير، حيث أنّ آخرها كان بالأمس القريب، عندما قالت في مُقابلة تلفزيونيّة لها في تشرين الثاني 2017، إنّ رئيس الحُكومة ​سعد الحريري​ باق على إستقالته، ولكن سيُعاد إنتخابه بعد فترة من الفراغ!

وما ينطبق على هذه "البصّارة – البرّاجة" ينطبق أيضًا على باقي "زملائها" أو "مُنافسيها" في الميدان عينه، حيث أخطأ هؤلاء في عشرات "الرؤى" و"الإلهامات"، والتي لا مجال لتعدادها لضيق المساحة، لكن منها ما قد يكون عالقًا في ذهن الكثير من المُتلقّين، خاصة عن تفجيرات وإغتيالات لم تحصل، وعن تحالفات حصل عكسها. ويُمكن لمن يرغب، إستخدام موقع البحث "غوغل لكتابة إسم أيّ "بصار" أو مُنجّم" مع كلمة توقعات لعام 2017، أي تلك التي بُثت خلال فترة رأس سنة 2016 – 2017 للتأكّد شخصيًا من نسبة الإخفاق الهائلة في هذه التوقّعات، علمًا أنّ الإستثناءات الصائبة المحدودة، كانت إمّا مُغلّفة بكلمات مُبهمة تحمل أكثر من تأويل وإمّا معروفة من قبل عُموم الناس، من دون الحاجة إلى أي "رؤى ثلاثية الأبعاد" من مُخادعين يجب سوقهم إلى المحاكم بدلاً من إستضافتهم وتكريمهم ومدّهم بالأموال.

في الختام، نُجدّد القول إنّ من يُريد أن يتسلّى بما يقوله "البصّارون" و"البرّاجون" عبر وسائل الإعلام، خاصة عشيّة رأس السنة، وحتى أن يسخر من هذه الأقاويل، عليه أن يُدرك أنّه يُساهم عمدًا أو من دون قصد، في تحويل هؤلاء إلى أصحاب ملايين من الدولارات، عن طريق عدم الإعتراض ضُمنًا على التعرّض للخداع على يد هؤلاء ومن يقف وراءهم ويدعمهم من وسائل إعلام، وكذلك من جهات أخرى لها مصلحة في تسويق أفكار مُعيّنة أيضًا.