الحضور الالهي والعشق للجمال الازلي

في 17 كانون الثاني تعيد الرهبانيات ال​لبنان​ية عيد القديس انطونيوس كوكب البرية ومؤسس نهج حياة الرهبانية كطريقة حياة جذرية لعيش الانجيل مع الوحيد المطلق الازلي. وتبعه جماهير الزهاد والنساك والمتوحدين عائشين «للضروري الاوحد» في الصمت والعزلة والصلاة والزهد والعمل والتأمل في سر تلك ال​صحراء​ البعيدة والقفار والبراري الموحشة.

لا يملأ هذه الوحدة الا الحضور الالهي والعشق للجمال الازلي.

الصحراء النيل و​الاسكندرية

توغل في الصحراء وحياة صمت وتأمل ومناجاة للخالق مدة عشرين سنة ثم نزل الى ضفاف النيل وأنشأ الاديار العديدة. وانا شخصياً التقيت براهب من دير ​مار انطونيوس​ في البابوية المرقسية في ​القاهرة​ واخبرني ان هذا الدير يضم اليوم اكثر من مئة راهب وكان انطونيوس اذا اشتد الاضطهاد على الكنيسة ينزل الى الاسكندرية يرافق ​المسيح​يين ويشردهم ثم كان يعود الى صومعته عندما يزول الاضطهاد ولقد زار القديس جولا اول النساك...

حتى ان القديس اثناسيوس طلب مساعدته في زمن الهرطقات الاديوسية.

وان الملك قسطنطين الكبير كتب له يطلب صلاته ورقد بسلام في 17 ك2 سنة 356 وله من العمر مئة وخمس سنين.

مارون العائش في الصحراء

و​مار مارون​ عاش في العزلة والعراء والحر والبرد على جبال قورش بالتقشف والزهد والصمت والصلاة. انه زمن البدايات او الايام الينبوعية التأسيسية لتيار سلوكي زهدي سيطبع تلاميذه و​الكنيسة المارونية​ التي تحمل اسمه. هذه الكنيسة التي تأسست على راهب وليس على مدينة او بطريرك وعلى العقيدة الخلقيدونية ا لقائلة ان في المسيح طبيعتين : طبيعة الهية وطبيعة انسانية واسست للاهوت التجسد وحملت مفاهيمه اللاهوتية والليتورجية او الطقسية. فاعطت التيولوجيا المارونية انتروبولوجيا او انسانية متميزة بعبدها الثنائي التعددي. فانها لا تنوجد بجمالها ولا كقوس ا لقزح بلقاء بين المطر والنور لتنفجر انواراً تبهر العين وتسحر القلب.

لبنان وطن المعية

لذلك كان لبنان وطن المعية من لقاء الشعوب والحضارات والاديان والناس والبحر والجبل والسهل ووسع الفصول الاربعة في حلقة موت وحياة لا يحتوينا القبر وكفن الموت وتقتدر الغربة والبعاد فنعيد قصة حفرون الملتصق بالارض المتشبث فيها وتعزون الهارب النافر منها والمشتاق العودة اليها والجبلان في جبال ​اللقلوق​.

شارل قرم شارل مالك

وكم ابدع شارل قرم في كتابه الجبل الملهم في وصف هذا الغنى في التراث والشخصية والحضارة اللبنانية والمارونية والمحاضرة الهامة للدكتور شارل مالك في مجلة الفصول من ​الموارنة​ او ما كتبه الابوان ​ميشال حايك​ وواكيم مبارك عن الموارنة.

اجلاء لذات من الذات

العملية الحدث في هذه الاختبارات الثلاثة بين انطونيو وشربل هي عملية اجلاء الذات من الذات.

فاذا كان انطونيوس ذهب الى الصحراء وما مارون انفرد على جبال قورش وحوله الهضاب والسهول فان شربل صعد الى قمة جبال ​عنايا​ المطلة على وادي ادونيس الجميل وتظهر قبالها جبال لبنان العالية في اللقلوق. يمكننا القول ان جبال لبنان صحراء شربل

ان صحراء شربل كانت الجبال العالية الجميلة الخضراء المكللة ب​الثلج​ والسنديان هذه الطبيعة الساكنة مأهولة بالحضور الالهي صحراء مار انطونيوس يشع فيها وجه الله تلة قورش ينيرها البهاء الالهي جبال عنايا يضج فيها صوت الله بوقع الثلج وعجيج الانهار.

الرسول هو الرسالة

الموقف الجذري عند الثلاثة كان موقف التخلي الجذري، التخلي التأسيسي، التخلي الينبوعي لتلبية نداء المنادي يتحول كل منهم من متلقي للرسالة الى رسول وحياته رسالة كما يقال Le midium est le message وليس ما يقوله من كلمات او ثرثرات لا تطابق احيانا مع حقيقة الحياة والعيش والسلوك والتصرف اي انه جسد في حياته حقيقة التخلي.

من اللاشيء الى كل شيء

كما جسد المسيح في حقيقة حياته وتجسده حقيقة التخلي عن الذات La gueusse «المسيح يسوع مع انه في صورة الله، لم يعد مساواته لله غنيمة، بل اخلى ذاته، متخذا صورة عبد، لما صار في شبه الناس وظهر في مظهر انسان» (فل 2:5/7) انها هجرة دائمة ورحيل مستمر من اللاشيء الى كل شيء التخلي عما هو ليصير الى ما هو الله بطريقة جذرية لا تنظر الى الوراء.

انطونيوس مارون شربل من وحدتهم ملأوا الدنيا من حبة قمح منفردة ماتت واتت بثمار كثيرة لا تمر ببلد من بلدان العالم شرقاً وغرباً الا وتجد ملجأ او كنيسة او معبد او اعجوبة شفاء لشربل ورهبان مار انطونيوس انتشروا في كل اصقاع الدنيا والموارنة ملأوا الدنيا ثقافة وحضارة وذاتاً فولوكلورية وطقوساً جميلة وادباً وفكراً وفناً واقتصاداً.

والثلاثة طبعوا ثيابهم بالبساطة والزهد والحشمة والاخلاق.

خاتمة

في النهاية من صعيد مصر مع انطونيوس الى جبال قورش مع مارون الى جبال لبنان مع شربل انه البعد الجغرافي الذي يشعل فيه ومعه قلب الانسان بالعشق الالهي، والحب للمطلق الوحيد الازلي لتعود السماء تمطر على الانسان والجماعة نِعَم الشفاء. ويتجلى معنى هذا الخيار الجذري في انعكاس اعطاء القدوة والمثال وفيض الخير والنعم على الضارعين الى السماء.