قبل أن يموتَ سيبويه، إمام النحاة، قال بحرقةٍ: أموتُ وفي نفسي شيءٌ من حتّى. لم يقلها من بسّط علم النحو عبثًا، بل ركونًا الى حيرةٍ زرعتها فيه وظائفُ “حتّى” الرفعية والنصبيّة والجرّية.

اليوم، وبعيدًا من تشبيه الكاتب بسيبويه والمكتوب عنه بـ “حتى” التي لم تعطل يومًا من العمل، يزرع سامي الجميّل حيرةً في نفوس كثيرين كي لا نقول الجميع. أهو رافعٌ الشأنَ المعيشي الى علِ؟ أهو ناصبٌ موقعًا ليس بحجمه لا بل ليس له فيه شأنٌ أو مكانة؟ أهوَ جارٌّ الناسَ باللعب على غرائزهم اليومية وحياتهم الشاقّة؟ “حتّى” بعضُ المقرّبين ما عادوا يفهمون سامي فكيف لأمثالنا نحن أبناء التفرُّج والحكم (وحتى التنظير) من بُعد أن نفهم حقيقة ما يريده الشابُ الطامحُ المخترقُ عالمَ السياسة تحت شعار “معارضة العهد”؟

حتى اليوم لم تُجدِ معارضة ​سامي الجميل​ جمًا، ومن باب إنصافه نجح من موقعه كرئيس حزبٍ وكمعارض أوّل متماهٍ مع ​المجتمع المدني​ في الطعن في إقرار قانونَي ​سلسلة الرتب والرواتب​ والتعديلات الضريبية، وهو ما هلّل جزءٌ كبيرٌ من الشعب له فترة قبل أن يستيقظ آخرون على “فرضيّة” أن هذا الطعن لا يعدو كونه تصالحًا صريحًا و”وقحًا” مع المصارف وأصحاب المصالح الخاصة الكبرى.

اليوم، يبدو أن ​النفايات​ ستكون مدخلًا قويًا لسامي الى الندوة البرلمانية، ليس لأنه لا يستحقّ تمثيل ناسٍ أحبّوه بعدما شعروا بأنه يتحدّث باسمهم ويحكي “لغتهم”، بل لأنّ هذا الملفّ الحساس يبدو أشبه بطيفٍ يلاحق اللبنانيين ليقضّ مضاجعهم وليعيد الى ذاكراتهم الحيّة مشهديات النفايات تجتاح شوارعهم وأعتابَ بيوتهم.

بعد مكبّ ​برج حمود​، وجد سامي الجميل مكبًا آخر أو مشروعَ مكبٍّ آخر يبني عليه صرخته المُحقّة في ظاهرها، ولكن ما لم يكن ينتظره الشيخ سامي أن يخرج وزير البيئة ​طارق الخطيب​ ظهر أمس ليردّ عليه من بيت شباب وليعلن فشل الفيلم الاستعراضي للجميل على هذه الشاكلة: “هناك كمية من النفايات أفرغت اليوم، وليأتِ النائب سامي الجميل وليرَ من أين تأتي النفايات.

فليتفضل ولا ينزل الى الساحل من أجل تضليل الرأي العام، فيما هو يغطي على النفايات التي تلوث الشاطئ اللبناني”. ليردّ سامي في فصل جديد: “ما سمّيتموه استعراضًا هو واجب قمت به كنائب وعملي هو مراقبة عملكم ويبدو أن الاستعراض هو وحده ما يحرّك السلطة".

بغضّ النظر عن الصراع “النفاياتي” المُسيّس الذي يتسلّح به القادة من باب رمي التهم حقًا أو جزافًا، يبقى الواقع أشدّ قرفًا من تلك الأكياس البشعة التي تستوطن تارة شاطئ زوق مكايل وطورًا منحدرًا في بيت شباب. ربما يغفل “المهملون” أنهم بإهمالهم من مواقعهم كمعنيين مباشرين أو كممثلين للشعب إنما يساهمون بدورهم كـ “كومبارس” في نجاح «مسرحيات» سامي الجميل. أنلومُ الرجل من موقعنا كمسؤولين عن نقل الحقيقة؟ أنتّهمه بالاستعراض وهو العاشق للاستعراض أصلًا إذا ما صوّب على من سمح لمجازر التلوّث أن تحصل في الأساس؟ أنقرُّ ونعترفُ بأنه “عاشق” إطلالات حتى لو كان في الأمر تملّقٌ ورياءٌ لصالح وصوله الى قلوب الناس وعقولهم بأي ثمن، أم نشكره على مسرحيّاته التي يؤدي فيها دورًا يعشق الناس مشاهدته وفق الصورة النمطية التي تقرّب “السياسي المهمّ” من الشعب “غير المهمّ” من خلال تبنّي الأول مصطلحات الثاني؟

هي الحيرةُ تستوطن يراعاتنا وفِكَرنا وضمائرنا مجددًا. جائرون إن قلنا إنه يُنظّر لا سيما في ملف بيئي صحي حساس، ومنصفون بغير حقّ إن استبرأنا “تنقيره” المتواصل على العهد على قاعدة “مش شايف حدا” فيما يعجّ حزبه بالأخطاء والامتعاضات مذ تسلّمه سدّة رئاسته. جائرون إن قلنا إنه يفعل كلّ ذلك من أجل مقعدٍ انتخابي، وإن كان ذلك حقيقيًا فـ”صحتين على قلبو” لأنه يقطف إهمال المعنيين، ومنصفون بغير حقٍّ إن قلنا إنه بات “الوصي الأول” على صحّة الناس، وهو الذي ينتظر “تفريخ” كيس نفايات من هنا، أو عتمة من هنا، أو شحًّا مائيًا من هناك ليرفع صوته، فيما لو كان هو شريكًا في الحكم لما اختلف أداؤه عن أداءات الحاكمين تنفيذيًا.

لم نفهم سامي يومًا، وقد لا نفهمه يومًا. ربما لأنّنا نرفض أن نصدّقه؛ ربّما لأننا نبني على تجربته السابقة في الحكومة والتي كانت مظللة بطمع عدديٍّ (ثلاثة وزراء)؛ ربّما لأنّ معارضته تنحو الى الاعتراض الاعتباطي الاستعراضي الذي لا يطعم سوى شعارات عوض الخبز؛ ربّما لأنه هو لا يفهم ماذا يريد وماذا يفعل؛ وربّما لأننا مخطئون نحن أنفسنا في الحكم على نواياه... وحدها الأيام غير البعيدة قد تنصف كلماتنا... أو تنصف نواياه!