مع إنهاء اللجنة الوزارية المكلفة تطبيق قانون الانتخابات الجدل البيزنطي الذي شهدته الساحة السياسية في الآونة الأخيرة على خلفية مقترحات تعديل القانون انطلاقًا من الإصلاحات الانتخابيّة، يمكن القول إنّ طبول الانتخابات قد قُرِعت، منذرة بأنّ مرحلة الجدّ قد انطلقت، لتفسح المجال أمام الحماوة الانتخابية لتتبلور شيئاً فشيئًا، بانتظار انطلاق الحملات الانتخابية بصورةٍ رسميّةٍ خلال أسبوع.

وفي وقتٍ يُعتقَد أنّ كلّ الملفّات، الخلافيّة منها كما غير الخلافيّة، ستُرحَّل إلى ما بعد الانتخابات، على اعتبار أنّ الحسابات الانتخابيّة ستتحكّم بالشاردة والواردة في الأسابيع القليلة المقبلة، تبرز ظاهرة "الوزراء المرشحين"، التي رغم أنّها ليست الأولى من نوعها في التاريخ ال​لبنان​يّ القديم أو الحديث، تطرح الكثير من علامات الاستفهام، ليس فقط حول مبدأ عدم المساواة بين المرشحين، ولكن قبل ذلك، حول نزاهة الانتخابات بحدّ ذاتها...

تخمة مرشّحين...

إذا كان صحيحًا أنّ ظاهرة "الوزراء المرشحين" لها الكثير من السوابق لبنانيًا، فإنّ الأكيد أنّها تكتسب أهمية مضاعفة واستثنائية هذا العام، ليس فقط ربطاً بالقانون الانتخابي الجديد، الذي يتمّ اعتماده للمرّة الأولى، ما يشكّل اختبارًا جديًا وفعليًا للحكومة، التي يفترض أن تثبت "حيادها" في إدارة العمليّة الانتخابيّة، ولكن أيضًا بالنظر لـ"تخمة" المرشحين من الوزراء، على اختلاف وتنوّع مشاربهم السياسيّة، والتي بدأت معالمها بالظهور خلال المرحلة الأخيرة.

وفي هذا السياق، يبدو واضحًا، حتى الآن، أنّ أكثر من نصف الوزراء في الحكومة ينوون الترشّح إلى الانتخابات النيابية المقبلة، وقد أعلن معظمهم هذه النيّة، وثمّة من يعتقد أنّ هذا العدد قابلٌ للارتفاع في المرحلة المقبلة، خصوصًا في ضوء وجود عددٍ من الوزراء الذين لم يحسموا أمر ترشّحهم بعد، أو يتركونه رهن قيادتهم السياسيّة، علمًا أنّ من يحسمون عدم وجود هذه النيّة من قريبٍ أو من بعيدٍ في المقابل يشكّلون "الأقليّة"، وربما لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، من دون أيّ مبالغة. وقد لا يكون الأمر مستغرَبًا، ليس فقط لكون النظام البرلمانيّ اللبنانيّ لا يلحظ فصلاً للنيابة عن الوزارة، ولكن قبل ذلك نظرًا لـ"إغراءات" السلطة، فضلاً عن كون الأحزاب الممثَّلة في الحكومة تريد توظيف "الشهرة" التي حقّقها ممثلوها في الحكومة، خصوصًا ممّن قاموا بـ"إنجازات" يمكن استغلالها انتخابيًا في الأيام المقبلة.

لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ لا شكّ أيضًا أنّ هذا الأمر يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول استخدام هؤلاء "الوزراء المرشحين" للسلطة في حملاتهم الانتخابيّة، وعدم التكافؤ بينهم وبين المرشحين الآخرين إلى الانتخابات، والتي يرى البعض أنّها قد تكون "الأشرس" في التاريخ الانتخابيّ اللبنانيّ، خصوصًا أنّ المنافسة على الصوت التفضيلي لن تُخاض فقط بين الخصوم، بل حتى بين رفاق الصفّ الواحد. وإذا كان صحيحًا أنّ القانون الانتخابيّ، الذي أقرّه ​مجلس النواب​ في العام الماضي، يشرّع هذه الظاهرة، ولا يحرم الوزراء من حقّهم بالترشح للنيابة، ولو كانوا في سدّة المسؤولية، فإنّ كثيرين يرون في الأمر في المقابل مفارقة غريبة عجيبة، بل مريبة، خصوصًا أنّ القانون الانتخابي نفسه يفرض مثلاً على رئيس البلدية ونائبه الاستقالة قبل فترةٍ من الانتخابات خشية استخدامهما سلطتهما لمآرب انتخابية...

ماذا عن نزاهة الانتخابات؟

من البديهيّ إذاً أنّ ظاهرة "الوزراء المرشحين"، المسبوقة مراراً وتكراراً في لبنان، هي ظاهرة مشرّعة في ​الدستور​، ولا إشكاليّات قانونيّة تحوم حولها، باعتبار أنّ قانون الانتخاب لم ينصّ في أيّ من بنوده أو مواده، على ما يتناقض معها، إلا أنّه من البديهيّ أيضًا أنّ هذه الظاهرة من شأنها ليس فقط أن تتسبّب بعدم مساواة بين المرشحين، وإنما يمكنها أن تضع نزاهة الانتخابات بحدّ ذاتها في خطرٍ شديدٍ.

ولعلّ المشكلة الأكبر على هذا الصعيد لا تتمثّل فقط في كون رئيس الحكومة مرشّحًا للانتخابات، وهو رئيس حزبٍ سياسيّ يطمح إلى خوض الانتخابات على امتداد لبنان بكافة دوائره ومناطقه، ولكن في كون وزير الداخلية بنفسه مرشّحًا للانتخابات، والوزير بموجب قانون الانتخابيّ الحاليّ هو المسؤول الأول عن إدارة العمليّة الانتخابيّة من ألفها ويائها، وربما الأخير، ولو عاونته هيئة إشراف على الانتخابات، أعطاها القانون "استقلاليّة جزئيّة" لا تزال مغيَّبة عمليًا عن الصورة. وهنا تُطرَح الكثير من الأسئلة، فكيف يوازن الوزير المعنيّ بالعملية الانتخابية بين "الحياد" الذي تفرضه مسؤوليته، وبالتالي ضرورة وقوفه على مسافة واحدة من جميع المرشحين، وبين "الانحياز" الذي تفرضه طبيعة المعركة الانتخابيّة التي يخوضها على المستوى الشخصيّ؟ وإذا كان الوزير يخضع مبدئيًا مثل غيره لمراقبة هيئة الاشراف على الانتخابات، فهل من عاقلٍ يتوقّع أنّ هيئة الاشراف، التابعة له، يمكن أن تُخضِعه للمساءلة أو المحاسبة، إذا ما ارتكب مخالفةً انتخابيّةً معيّنةً مثلاً، أو إذا ما تخطّت حملته الانتخابيّة سقف الانفاق المنصوص عليه في القانون؟.

وإذا كان لبنان شهد تجربة فريدة من نوعها في العام 2005، مع ما سُمّيت بـ"حكومة الانتخابات" التي ترأسها رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​، ولم تضمّ في صفوفها سوى مرشّحين للانتخابات، وهي تجربة أثبتت نجاحها في مكانٍ ما، تمامًا كتجربة العام 2009، التي كان فيها وزير الداخلية ​زياد بارود​ على الأقلّ من غير المرشحين للانتخابات، بل من الملمّين بالشؤون الانتخابية وإدارتها، فإنّ الحلّ الأكثر واقعيّة يبقى بإعطاء هيئة الاشراف استقلالية تامة في المستقبل، وقد تمّ اعتماده في العديد من الدول، منها تونس على سبيل المثال بعد ثورة 2011، وهذا الحلّ من شأنه تحييد الحكومة بشكلٍ كاملٍ عن تفاصيل العمليّة الانتخابيّة، ووضعها في أيدي هيئةٍ مستقلّة فعلاً وقولاً، لا تخضع لهذا وذاك، كما لا تخشى لومة لائم، وهو إصلاحٌ يجب أن يكون مطلوبًا، بل يتفوّق على الإصلاحات التي خاض بعض الفرقاء "معارك" في سبيلها، ولو من باب المزايدات الانتخابية ليس أكثر.

رهاناتٌ كبيرة...

هلّل الكثيرون للقانون الانتخابيّ الجديد عند إقراره في ​المجلس النيابي​، وذلك لشموله الكثير من الإيجابيّات، خصوصًا أنّه شكّل قفزة نوعيّة نقلت لبنان من النظام الأكثري إلى النظام النسبيّ. لكن، وقبل الانتقال لمرحلة "التنفيذ"، بدأت "عيوب" القانون بالظهور، من تشويهه للنسبية بتقسيماته المذهبية، إلى تعقيدات الصوت التفضيلي التي تجعله أقرب إلى النظام الأكثريّ، مرورًا بتغييبه الإصلاحات، وتكريسه بعض الظواهر غير الصحية.

اليوم، لا شكّ أنّ الأولوية يجب أن تكون لإجراء الانتخابات بموجب القانون الحاليّ على ثغراته، لأنّ التمديد هو الخط الأحمر الذي يجب حظر الاقتراب منه بأيّ شكلٍ من الأشكال. إلا أنّ الأكيد أنّ "ورشة الإصلاح" يجب أن تنطلق من جديد في اليوم التالي للانتخابات تحت عنوان "لا عودة للوراء" ولكن أيضًا "تطوير النظام الانتخابي" للوصول إلى قانونٍ يؤمّن دقّة وعدالة التمثيل، ويوفّر في الوقت نفسه نزاهة العملية الانتخابيّة وإدارتها، وهنا بيت القصيد...