في كُلِّ سَنةٍ قُبيل أَحد المَرفَع، يتحضَّر ​المسيح​يُّون لإِحياء العمل الخَلاصيِّ المُتمثِّل بآلام السيِّد المَسيح وموتِه لأَجل خلاص العالم أجمع، ومن ثمَّ قيامته مِن بين الأَموات ظافرًا...

وفي كلِّ سنةٍ، تكثُر الاجتهادات في شأْن تَسمية الخَميس الَّذي يَسبق "أَحد المَرْفَع" و"اثنين بدء الصَّوم المبارك: البَعض يُسمِّيه "خميس الذَّكارى"، وآخرون يُطلقون عَلَيْه تَسمية "خَميس السَّكارى".

وأَمَّا أُولئك الَّذين يُسمُّونَ النَّهار المُشار إِليه "خميسَ الذَّكارى، فقد ارتكبوا خطأَين اثنَين: على صعيد اللُّغة كما على صعيد "الليتورجا" (صَلوات، أَعْياد...).

فلُغَوِيًّا كلمة "ذَكارى" لا تعني أَبَدًا "تَذكار المَوتى" كما يدَّعي أَصحاب هذا الرَّأي، بل إِنَّها اشْتِقاقٌ لَغَوِيٌّ مِن ذَكَر (في المُفرد) وذُكور أَو ذَكارى في الجَمع...

وإِذا كانت كلمة "سَكارى" لم تَرِدْ في "الليتورجيا" الكنسيَّة، فإنَّ كلمة "ذَكارى" لم تَرِدْ هي أَيضًا، وهُنا الخَطأ الثَّاني الَّذي انزلَق إِليه دُعاة "الذَّكارى"...

وَمِن ثَمَّ إِذا كان المَقصود بكلمة "ذكارى" أَنْ يَتَذَكَّر المُؤمنون مَوْتاهم، فَإِنَّ المَسيحيَّ المؤمن مَدعوٌّ إِلى أَنْ يَذكر مَوْتاه المُؤمِنين يوميًّا وليس فقط قبل أُسبوعٍ مِن أَحد المَرْفَع... إِذًا فإِنَّ الكَنيسة تُخَصِّص الأُسبوعَ الَّذي يَسْبقُ الصَّومَ الكَبير بِكامِلِهِ، لتَذَكُّر الموتى وَليْس فقط نهار الخميس.

واستنتاجًا نَقول: إِنَّ "التَّذكار" شيءٌ، و"الذَّكارَى" المَزعومَة شيءٌ آخَر!.

تبقى الإِشارة إِلى أَنَّ خميس "الذَّكارى"، تِلك العِبارة غَيْر المَوْجودة في المَعاجم، قَد أَتَتْ نتيجةً لِمحاولةِ إِسقاط المَعنى الرُّوحيِّ على مُناسبةٍ دينيَّةٍ اجتماعيَّةٍ عائليَّةٍ، ربَّما بِسبب تَمادي البَعض في الشِّرب حتَّى الثَّمالةِ…

وفي هذا الإطار يقول كاهن رعيَّة "سيِّدة البشارة" للسِّريان الكاثوليك الأب شارل مراد، إِنَّ "الاسم الحقيقيَّ لِهذا اليوم هو "خميسُ السَّكارى" وليس "خميسَ الذَّكارى". ويُكْمِلُ أَنَّ المَقصود بِالسَّكارى "ليس السِّكْرُ بِالكُحول، وَتحديدًا النَّبيذ، الَّذي كان رائجًا في أيَّام المسيحيِّين الأَوائل، وإِنَّما الاستعدادُ للسّكر بِيسوع وبمحبَّتِه لنا الَّتي أَوصلته إِلى الصَّليب".

وما يُعَزِّز تسميةَ "خميس السَّكارى"، أَنَّ الخَمْرَة غير مَمنوعةٍ على المسيحيِّين، بِالنَّظر إِلى أَنَّها رمزٌ لِتَطْهير النَّفس البشريَّة من الأَمراض.

ويبقى أَنَّ "خميس السَّكارى" ليس عيدًا مسيحيًّا، بل هو عادة تَجمعُ الأهل تحت سقفٍ واحدٍ، ليتشاركوا الطَّعام ويَتَذَكَّروا أَمواتهم، تَحضيرًا للصَّوْم الكَبير!.

وحين يَقترب زمن الصَّوم المُبارك، تَأْكل العائِلة المَأكولاتِ الَّتي ستَحْرم نفسَها منها خلال الصَّوم، ليس بهدفِ قَهْرِ الذَّات، وإِنَّما لتسجيل نَوعٍ من الإِماتة، تُتيح للمسيحيِّ أَنْ يَتشارك فيها مع المسيح في آلامه المُقَدَّسة. وإِنَّ المقصود بكلمةِ "مَرفع" هو "التَّرفُّع" عن اللُّحوم والبَياض، طَوال فترةِ الصَّوم المُبارك. لِذا تقبل العائلة على تناول اللّحوم الأحد الّذي يسبق المرفع، على مدى ثلاثة أَيَّام (أي مِن الخَميس إِلى مساءِ الأَحد)، وبِذلكَ تكون العائلة قد استَهْلَكَت ما لديها من الكُحول واللُّحوم والأِجبان والألبان، وإِلاَّ فالمَأْكولات ستُفْسَدُ، لِعدم تَوافر الثلاَّجات آنذاك، لحفظ اللحم حتَّى حلول العيد.

كما ويعود هذا التَّقليد الاجتماعيُّ الشَّعبيُّ إِلى الحقبةِ الرُّومانيَّة والوثنية نظراً إِلى الوجود المسيحيِّ في الإِمبراطوريَّة القِسْطَنْطِينيَّة آنذاك، فانْطَبَعَتْ لدى المَسيحيِّين عاداتٌ وَتقاليدُ لم يتمكَّنوا من التَّخلِّي عَنْها بِسهولةٍ، إِلى أَنْ أَصْبحت مُتَوارثةً حتَّى يومِنا هذا.

إذًا إنَّه "خَميسُ السَّكارى" أَيُّها المُحتَرَمون! وهو ليس بِعيدٍ، بل عادة تَجمع الأهل لِيَتَشارَكوا الطَّعام ويَتَذَكَّروا أَمواتَهم، تحضيرًا للصَّوم. وَإِذا شِئتُم سَمُّوهُ "خميس المَرْفع" ولا تُسمُّوه أَبدًا "خميس الذَّكارى"...

* ​رزق الله الحلو​- كاتب وتربوي