يقرأ الأميركيون جيّدًا في كتب الشرق الأوسط، لا بل هم أكثر من يقرأ في هذه الكتب، حدّ أنّ بعض “الشكليّات” باتت تعني لهم رغم أن رئيسهم الجديد متفلّتٌ من معظمها كي لا نقول جلّها. ورغم أنّ الأميركيين هم خيرُ من أرسى بروتوكول “المواعيد الدقيقة”، كان على وزير الخارجية ​ريكس تيلرسون​ أن ينتظر دقائق معدودة قبل أن يصل نظيره اللبناني ​جبران باسيل​ إلى إحدى قاعات قصر بعبدا ويصافحه. لم يكن الخلل الذي أضاء عليه الإعلام الأميركي (من باب الامتعاض) ونفته دوائر قصر بعبدا من الجانب اللبناني، بل بسبب وصول الوزير الأميركي قبيل موعده المحدد بدقائق.

أيًا يكن، وبعيدًا من الشكليات التي تندرج في إطار “السياسة الإلهائيّة” أو سياسة “كشح الأنظار” التي تُعدُّ “خرّيجة” مدرسة الإعلام الأميركية، يبدو أنّ ​واشنطن​ بدأت تقتنع بأهمية عدم تجاهل الرسائل التي تصلها يوميًا من الشرق الأوسط مذيّلةً مرّةً بتوقيع ​إيران​ي ومرةً بتوقيع سوري ومرّةً بتوقيع لبناني وأخيرًا بتوقيع تركي على خلفيّة “طفرة الحساسية” بين ​أنقرة​ وواشنطن بعد دعم الأخيرة القوات الكردية المسلّحة.

على الخطّ اللبناني، واضحٌ أنّ ما قبل إسقاط دمشق طائرة أف 16 ال​إسرائيل​ية غير ما بعده. وجليٌّ أيضًا أن إدارة الرئيس ترامب “براغماتية” تُجيد تعديل حساباتها ومصالحها في المنطقة بالركون الى التعديلات “غير الطفيفة” في قواعد الاشتباك وموازين القوى. أسقط السوريون طائرة إسرائيلية، بدت ردّة الفعل الإسرائيلية أقرب الى “الهلع” المتلطّي في صيغة “تلافي التصعيد” بمسعى روسي، تضعضع الداخل الإسرائيلي وراح معارضو رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يشككون في “الدعم الأميركي” لا بل يرتقون بنظرية تخلّي واشنطن عن إسرائيل. تمضي أيامٌ، يحلّ تيلرسون ضيفًا على الشرق الأوسط ليكرّس نظريّة “البراغماتية” الأميركية “القسريّة”: ​حزب الله​ جزءٌ من العملية السياسيّة في لبنان، يقولها تيلرسون بوضوح تام. هو نفسه حزب الله الذي لا ينفكّ الأميركيون يعززون “موقعه” على لوائحهم السود ويفرضون عقوبات على عناصر تابعين له بحجة “تمويلهم ​الإرهاب​”. هو نفسُه حزب الله الذي يُرعِب تطوّر ترسانته العسكرية العدوّ الحدودي. هو نفسُه حزب الله، الابن المدلّل لإيران التي أراد الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ إجهاض ​الاتفاق النووي​ معها لولا معارضة الداخل والضغوط الأوروبيّة. ذاك الكلام له عواقبه في حسابات إسرائيل التي سرعان ما تجلّت “هزّة عصاها” في موقف “فصامي” من لبنان أعاد التذكير بأن واشنطن تعتبر “حزب الله منظمة إرهابية منذ

عقدين من الزمن ولا تفرق بين أجنحته”. (علمًا أن هذا الكلام جاء على لسان تيلرسون في السراي الحكومي).

يُقرأ كلام تيلرسون المتناقض من زاويتين لا ثالثة لهما: إمّا أنّه تمهيد صريحٌ لاقتراب موعد انسحاب واشنطن من الساحة الشرق أوسطية عسكريًا ركونًا إلى حقيقة مشارفة معارك “الوكلاء” لا سيما في سورية على الانتهاء، وسلوك ​العراق​ طريق إعادة الإعمار بعد دحر الإرهاب وتطهير أراضيه منه. وإمّا أنه اعترافٌ بتلاشي الدور الأميركي على حساب الدور الروسي، وبالتالي سقوط “الأمن الحمائي” عن إسرائيل بمعنى الغطاء الدولي الذي كانت واشنطن تؤمّنه لحكومة نتنياهو، وذلك بعد التيقّن من اطّراد قوّة محور الممانعة، واستعداده للانتقال من مرحلة التهديد النظري الى التنفيذ على الأرض وبكلّ الوسائل والطرائق المُتاحة والأسلحة القابلة للنقل عبر الحدود من إيران وروسيا. وفي كلتا الحالتين، ورغم الرباط العضوي بين الإداة الاميركية وتحديدًا الرئيس المُنتخب واللوبي الصهيوني القادر على تبديل كلّ المعادلات، تتّجه واشنطن مرةً جديدة إلى حصر اهتمامها في “مصلحتها الخاصّة”، من خلال عدم الغرق في حربٍ جديدة تستنزفها بشريًا وماديًا وسياسيًا كما فعلت حرب العراق “الفاشلة” في العام 2003.

يعي الأميركيون جيدًا أن أيّ معركةٍ ستُفتَح ضدّ إسرائيل في المنطقة إنما سيكون لبنان جبهتَها الرئيسة مع فارقٍ غير بسيطٍ هذه المرّة عن ​حرب تموز​ الأخيرة ألا وهو تعدُّد الجبهات والصفعات التي ستنزل على إسرائيل. ولهذا الغرض، يبدو من مصلحة واشنطن “التوسُّط” بين لبنان وإسرائيل لفرملة بناء الجدار الإسمنتي حدودًا، ولردع الأطماع عن البلوك التاسع المحسومة لبنانيّتُه، أولًا من خلال مساعد وزير الخارجية الأميركي دايفيد ساترفيلد الذي حاول فرض كلمة إسرائيل في الدُور اللبنانية ليُفاجأ بإصرار على الردع والتصدّي، وثانيًا عبر وزير الخارجية نفسه ليُفاجأ هو الآخر بموقفٍ لبناني جازمٍ من قصر بعبدا وعين التينة والسراي الحكومي، غير قابل للنقاش لا بل آيل إلى التصعيد في حال تجرأت إسرائيل على مدّ يدها إلى ما هو ليس ملكَها في بحر لبنان.

ذاك التضعضع الإسرائيلي ينسحب إلى الإدارة الاميركية التي يبدو أنها ليست على أتمّ ما يُرام، وخيرُ دليل على ذلك المقال التحليلي الذي نشرته CNN الأميركية عن زيارة تيلرسون إلى الشرق الأوسط بعنوان: “تيلرسون مُرسَل من دون رسالة”. ويشير التقرير (بقلم بن ويدمان) إلى أنّ “الرئيس ترامب إذا أراد فعلًا أن يعاقب وزير خارجيته، فهو وجد السبيل إلى ذلك بإرساله إلى الشرق الأوسط”. ويعترف الكاتب بأنّ “بلاده تفقد قبضتها في شرق أوسط نازف وغارق في الصراعات والدماء”. كما يقرّ المقال بتراجع نفوذ ​الولايات المتحدة​ في المنطقة

حيث يقول الكاتب: “ إذا كان هناك أي شك حول تقلص النفوذ الأميركي في المنطقة، فإن هذه الجولة الزوبعة تبدّد كلّ الشكوك".

ومن باب “رفع العتب” رغم الإقرار الأميركي بأهمية وجود حزب الله في لبنان والمنطقة، يحثّ تيلرسون الأفرقاء اللبنانيين، وتحديدًا رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ على الابتعاد قدر الإمكان من حزب الله في محاولة لتخفيف النفوذ الإيراني في لبنان والمنطقة” على ما علمت “البلد” من مصادر مواكبة. ورغم هذه المحاولة التي تعرف واشنطن نتيجتها سلفًا استنادًا إلى حقيقة أنّ حزب الله شريكٌ أساس في حكومة الحريري، يشير مقال CNN إلى أن “حزب الله ينجح في اجتذاب العطف الشعبي تجاهه لا سيما عندما يتعلق الأمر بمحاربته داعش على الحدود الشرقية، وبالتالي فإنّ محاولة إقصائه من المعادلة السياسية تبدو بالنسبة إلى عددٍ كبير من اللبنانيين مغامرةً بالاستقرار الذي أرسي بعد طرد الإرهابيين”. ويعزّز ويدمان (كاتب المقال) دور حزب الله في لبنان بحادثة شخصيّةٍ يوردها في سياق نصّه: “بينما كنتُ جالسًا في إحدى حانات بيروت الغربية، اقتربت منّي سيّدة مسيحية وسألتني: ما رأيك بنصرالله (في إشارة إلى الأمين العام لحزب الله ​حسن نصرالله​)؟ وقبل أن أجيبها سارعت إلى الردّ: “أعشقه”. واستدرك أحدّ الجالسين إلى المائدة نفسها قائلًا: “هو سائق السياسة اللبنانية بلا منازع”. ويختم ويدمان بسؤال ربّما تردّده أربعة ملايين شفّة ونيّف: الحالة اللبنانية معقّدة جدًا، فهل يعي تيلرسون أو رئيسُه ذلك؟