مطمئناً يبدو "​التيار الوطني الحر​" عشيّة ​الانتخابات​ النيابية، رغم كلّ "فوضى" الترشيحات التي هدّدت وحدته وبنيته، والأهمّ، الحسابات التي رجّحت تقلّص تكتله النيابيّ، منذ ما قبل نضوج تحالفاته بشكلها النهائيّ.

بصراحة، قالها رئيسه وزير الخارجية ​جبران باسيل​. يريد "التيار" أن يشكّل كتلةً أساسيّة تكون "درعاً للرئيس القوي"، حتى يتمكّن الأخير من تحقيق المشروع الذي يصبو إليه، هو الذي قال ذات مرّة أنّ عهده لن يبدأ عملياً إلا بعد الانتخابات النيابية.

بيد أنّ "التيار"، شأنه شأن معظم القوى السياسيّة، انتهج في سبيل هذه الكتلة استراتيجيّاتٍ وتكتيكاتٍ حيّرت المحازبين والموالين قبل الأصدقاء والخصوم، وبينهم من لم يتوقّع أن يمدّ باسيل يده إليهم يوماً، ولو كرمى لصوتٍ تفضيليّ من هنا أو مقعدٍ نيابي من هنالك.

مفارقاتٌ بالجملة...

كثيرةٌ هي المفارقات التي يمكن للمرء التوقف عندها عند معاينته للائحة مرشحي "التيار الوطني الحر"، والأهمّ لقائمة حلفائه، لائحة بدا أنّ "تناقضاتها" في الشكل والمضمون تتفوّق على كلّ ما عداها، لتطرح علامات استفهامٍ بالجملة عن الشعارات التي لطالما نادى بها "العونيّون"، وعن المفاهيم التي لطالما التزموا بها، في السراء والضراء، من أجل الوصول إلى "الدولة القوية" التي وضعوها نصب أعينهم، منذ ما قبل الوصول إلى السلطة.

كثيرٌ من الكلام يمكن أن يُقال في هذا الصدد عن مبادئ "التيار" التي اختفت فجأةً عن السمع والنظر، عن "​التغيير والإصلاح​" الذي تحوّل بين ليلةٍ وضُحاها إلى حليف من يريد تغييرهم وإصلاحهم، عن تيّار تهكّم يوماً على مقولة "فليحكم الإخوان" وإذا به يصبح شريكاً لذراع "الإخوان" في لبنان، عن "الإبراء" الذي كان "مستحيلاً" فبات "أمراً واقعاً" لا يحتاج للنقاش، عن "الوفاء" الذي غاب عن القاموس الانتخابيّ لتحلّ مكانه المصلحة، ولا شيء سواها، لدرجة أن تضمّ لائحة مرشحي التيّار نائباً لم يرفض انتخاب العماد ​ميشال عون​ رئيساً للجمهورية فحسب، بل وصل به الأمر يوماً لحدّ اتهامه بـ"الهوس".

كثيرٌ من الكلام يمكن أن يُقال أيضاً عن تحالفات "التيار" التي وُصِفت يوماً بـ"الاستراتيجية" و"المتينة"، فإذا بها لا تجد موطئ قدم إلا في ما ندر، وعلى رأسها على سبيل المثال التحالف مع "حزب الله"، الذي تحوّل إلى "شبه طلاق" استثنيت منه بعض الدوائر، إما للمصلحة، وإما لأنّ الطرق سُدّت أمام الافتراق، ولعلّ المفارقة الأكثر تعبيراً عن هذه الحال ترك مرشح الحزب في جبيل و​كسروان​، معقل "التيار" الرئيسيّ، "يتيماً" قبل أن يجد لائحة تستقبله في اللحظات الأخيرة، إضافة إلى "المواجهة" مع الحزب في عقر داره، من بعلبك الهرمل إلى دوائر الجنوب بالجملة.

وإذا كان كثيرٌ من الكلام يُقال أيضاً عن "التضحية" ببعض الأسماء "الملتزمة" لصالح "أصدقاء" لم يكونوا يوماً أصدقاء، فإنّ الكثير من الكلام يُقال عن بعض التحالفات، التي نسجها "التيار" ونقضها في تصريحاته، كالتحالف مع "​حركة أمل​" مثلاً. فعلى الرغم من أنّ هذا التحالف حاصل عملياً في أكثر من دائرة، من ​بيروت​ الثانية إلى ​بعبدا​، مروراً ب​البقاع الغربي​ من خلال نائب رئيس المجلس النيابي الأسبق ​إيلي الفرزلي​، يستمرّ الهجوم المباشر وغير المباشر على رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​، في التصريحات العلنية وتلك المضمرة، بما يطرح المزيد من علامات الاستفهام.

الخسارة خط أحمر

قد يكون القانون الانتخابيّ هو سببٌ منطقيّ وواقعيّ للكثير من التحوّلات غير المنطقيّة التي طرأت في هذه الانتخابات على "التيار" وعلى غيره من القوى السياسية، انتخاباتٌ كان لا بدّ فيها من التبرؤ من "المبادئ" وكلّ ما يمتّ إليها بصلة، من أجل تحقيق نتيجةٍ يمكن البناء عليها في المجلس النيابيّ المقبل، بعيداً عن المزايدات الشعبية، والشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

فتماماً كما تخلّت "الكتائب" عن مبدئيّتها وتعاونت مع "القوات" خلافاً لكلّ مواقفها "الشعبوية"، وتماماً كما تحالف "المستقبل" مع "القوات" في دائرة وتواجه معها في أخرى، وتماماً كما وجد "حزب الله" نفسه على لائحة واحدة مع قيادي "قواتي"، ولو سابق، وتماماً كما تحوّل بعض المجتمع المدني إلى باحثٍ عن مقعدٍ ولو بالتحالف مع الطبقة السياسية، كان من الطبيعي أن يبحث "التيار" عن مصلحته، لأنّ الخسارة خط أحمر، خصوصاً في ظلّ عهدٍ يعتبر نفسه عرّابه، ويحرص عليه.

باختصار، يمكن القول إنّ المبدأ الذي يتحكّم بهذه الانتخابات، بالنسبة إلى "التيار" وغيره، لا يعدو كونه "الغاية تبرّر الوسيلة"، على قاعدة أنّ الغاية هي الوصول إلى البرلمان بأكبر قدرٍ ممكنٍ من النواب الملتزمين، بمُعزلٍ عن الوسائل التي من شأنها أن تحقق هذه النتيجة. إلا أنّ السؤال الكبير يبقى، بعد كلّ موجات التوتر والتشنج التي شهدتها جبهات يفترض أنّها حليفة، هل يمكن أن تعود الأمور بعد الانتخابات إلى ما كانت عليه قبلها، وكأنّ شيئاً لم يكن؟

في هذا السياق، يمكن الحديث عن "قناعة" لدى "التيار"، ولدى غيره من القوى السياسية، بأنّ التحالف الانتخابيّ شيء وذلك السياسيّ شيءٌ آخر. من هنا، يبدو "التيار" مطمئناً على تحالفاته السياسية والاستراتيجية، مهما كانت الظروف الانتخابيّة اليوم معاكسة، وهو ما عبّر عنه الوزير باسيل خلال احتفال إعلان مرشحي "التيار"، يوم كان واضحاً في حديثه إلى حليفيه وشريكيه الأساسيّين، أي "حزب الله" و"​تيار المستقبل​".

وإذا كان هناك من يغمز من قناة العلاقة مع "حزب الله" على وجه التحديد، فإنّ "التيار" يعتبر أنّ المأخذ الأساسي، إذا وُجِد، لا يجب أن يكون على "التيّار" بل على "الحزب" نفسه، لأنّه كان البادئ بإعلانه صراحةً أنّه يعطي الأولوية لتحالفه مع "حركة أمل" على تحالفاته الأخرى، وسارع لإعلان لوائحه ومرشحيه قبل أيّ تنسيق مفترض مع الحلفاء الآخرين. لكنّ "التيار" يتعامل مع الأمر وكأنه شأنٌ انتخابيّ محض، لن يستمرّ بعد الانتخابات، انطلاقاً من كلام الأمين العام للحزب ​السيد حسن نصر الله​ عن "تفهّمه" لخيارات الحلفاء أياً كانت ومهما كان شكلها، بل إنّه يتطلّع إلى زيادة النقاط المشتركة، مع رفع "الحزب" لواء ​محاربة الفساد​، باعتباره يشكّل إطاراً آخر من المقاومة، لا يقلّ أهمية عن الجانب العسكريّ.

الشعارات سقطت!

بالنسبة لـ"التيار الوطني الحر"، فإنّ التحالفات التي يخوض على أساسها استحقاق السادس من أيار هي تحالفاتٌ انتخابيّة ظرفيّة مؤقتة ينتهي مفعولها في السابع من أيار، إن لم يكن قبل ذلك.

يقول العارفون في هذا الصدد إنّ "التيار" لا يمكن أن يكون حليفاً في السياسة مثلاً لـ "​الجماعة الإسلامية​" التي يختلف معها على مقاربة غالبية المواضيع، وإن اتفق معها انتخابياً في مكانٍ هنا أو هنالك، بدافع "المصلحة الانتخابية".

ولكن، أبعد من تحالفات ما قبل وما بعد الانتخابات، يبقى تغليب "المصلحة" على "المبادئ" أمراً إشكالياً من الناحية الأخلاقية أولاً، هو الذي يكرّس السياسة لعبة مصالح بالدرجة الأولى، بعيداً عن كلّ الشعارات الطنانة والرنانة، التي سقطت عند أول اختبار...