من الواضح أن أزمة اغتيال سكريبال العميل المزدوج الروسي البريطاني في لندن ، وما أعقبه من تصعيد ​الحكومة البريطانية​ ضد ​روسيا​ واتهامها بتسميم سكريبال من دون أدلة ورفضها أي تعاون مع موسكو لإجراء تحقيق حول ملابسات ما حصل في ظل نفي الأخيرة أي علاقة لها باﻻمر، أثار ويثير التساؤلات حول الهدف الكامن من وراء الإصرار على اتهام روسيا من دون أي أدلة، وتصعيد الموقف ضدها عبر ابعاد عشرات الدبلوماسيين الروس من ​بريطانيا​ و​الولايات المتحدة​ ودفع العديد من الدول الأوروبية إلى الحذو حذو لندن وواشنطن باتخاذ خطوات مماثلة.

هناك اعتقاد بأن بريطانيا وبتحريض أميركي عمدت إلى استغلال اغتيال سكريبال من اجل تنظيم حملة ضغط واسعة ضد روسيا وإحراج الدول الأوروبية ودفعها، تحت يافطة التضامن الاوروبي، للاشتراك في اتخاذ الإجراءات العقابية ضد موسكو، رغم أن العديد من الدول الأوروبية لا تريد مجاراة بريطانيا في العداء لروسيا، ولهذا جاءت إجراءاتها مجرد رفع عتب، حيث أقدمت العديد من العواصم الأوروبية على إبعاد دبلوماسي أو اثنين، في حين أن لندن ابعد 23 دبلوماسيا روسيا وواشنطن أبعدت 60 دبلوماسيا، ويبدو أن ما يجري إنما هو نوع من الضغط الأميركي البريطاني، من دون أدلة أو إثباتات، وان الحملة مبنية على افتراضات بريطانية تقول بأن لدى لندن أدلة لكنها لا تعلن عنها، وذلك بهدف الضغط على ​الاتحاد الأوروبي​ لاتخاذ مواقف وإجراءات ضد روسيا، التي أعلنت أنها سترد بالمثل على قاعدة العين بالعين، أي بإبعاد إعداد مماثلة من الدبلوماسيين الأوروبيين والأميركيين.

وتفيد المعلومات الواردة من العاصمة الأميركية أن ​الكونغرس الأميركي​ يعتزم الاستفادة من هذه الفرصة لتصعيد الضغط على الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ عبر فرض عقوبات جديدة تطال هذه المرة كبار المسؤولين الروس بمن فيهم بوتين.

فما هي اﻻهداف الحقيقية وراء توقيت هذا التصعيد الأميركي البريطاني ضد روسيا؟

من يدقق بالمشهد الدولي يلحظ أن التوتر في العلاقات الأميركية الروسية بدأ يتصاعد في الفترة الأخيرة مع التغيرات الحاصلة في المواقع الأساسية في الإدارة الأميركية حيث لوحظ أن فريق الرئيس ​دونالد ترامب​ الذي تم اختياره على إثر تسلم ترامب مقاليد السلطة في ​البيت الأبيض​، قد جرى تغييره تباعا بضغط من الجنرالات و​اللوبي الإسرائيلي​ الأميركي وعتاة المحافظين في الحزب الجمهوري في سياق ما يبدو انه صفقة يتخلى فيها ترامب عن سياسة التعاون مع روسيا، مقابل عدم المضي بالتحقيق في مسألة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لصالح ترامب.

وبدا أن هذا الصراع في الداخل الأميركي بخصوص السياسة الخارجية قد حسم لمصلحة الفريق الذي يسعى إلى عدم التعاون مع روسيا والإقرار بدورها الدولي كشرك، والعمل على احتواء ومحاصرة روسيا وتحجيم دورها. ومنعها من تحدي الهيمنة الأميركية ولعب دور منافس للولايات المتحدة في الساحة الدولية.

وتسعى واشنطن أيضا إلى احتواء روسيا في قضايا التوازن الاستراتيجي والمواجهة مع حلف الأطلسي وتقويض الدور الروسي في سورية وتعطيل التعاون الروسي التركي الإيراني .

ولتحقيق هذا الهدف كان لابد لأميركا من أن تستعيد الدول الأوروبية إلى جانبها، ووجدت الفرصة باتهام روسيا بتسميم سكريبال، لدفع دول الاتحاد الأوروبي وجعلها تتراصف معها في مواجهة روسيا والاشتراك في فرض العقوبات ضدها.

باختصار أن ما تريده واشنطن من وراء التصعيد ضد موسكو إنما هو منع ولادة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وإعادة تعويم الهيمنة الأميركية على العالم والتي باتت مرتبطة بإعادة روسيا إلى داخل حدودها والتوقف عن السعي لتحقيق طموحاتها باستعادة أمجاد ​الاتحاد السوفياتي​ السابق. أي بصريح العبارة، أن المعركة الدائرة إنما هي معركة النظام الدولي.

لكن هل أن ذهاب واشنطن بعيدا في التصعيد ضد موسكو وإقدام الكونغرس على اتخاذ إجراءات عقابية تشمل هذه المرة الرئيس بوتين، سوف يؤدي إلى تحقيق ما ترمي إليه الإدارة الأميركية؟ أم أن التصعيد المذكور سيقود إلى نتائج عكسية لن تصب في مصلحة أميركا؟.

التجربة في أوكرانيا أشرت إلى أن التصعيد الغربي ضد روسيا ومحاولة الاقتراب من حدودها عبر السيطرة على أوكرانيا، دفع موسكو إلى الرد بقوة ودعم الغالبية الروسية في جنوب وشرق أوكرانيا المحاذية للحدود مع روسيا واستعادة جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي عبر إجراء استفتاء شعبي في الجزيرة.

واليوم فإن الرد الروسي كما هو متوقع لن يكون أقل حدة وشدة من الرد في أوكرانيا، فمن المتوقع أن يندفع الرئيس بوتين إلى اتخاذ خطوات أكثر تشددا في مواجهة سياسات الهيمنة الأميركية، تؤدي إلى إضعاف قدرة واشنطن على التأثير في ​الأزمة السورية​، وهذا التوقع ينطلق من المواقف الحازمة والقوية التي اتخذها بوتين مؤخرا في مواجهة التهديدات الأميركية، والتي استعرض فيها قوة روسيا المتطورة في الجو والبر والبحر وكشف خلالها عن أنواع جديدة من الصواريخ العابرة للقارات والقادرة على بلوغ أهدافها في أي نقطة من العالم من دون أن تتمكن الرادارات الأميركية من رؤيتها.

هذا المشهد من التصعيد والتصعيد المضاد يؤشر بوضوح إلى أن العالم قد دخل فعلا مرحلة جديدة من الصراع، عشية ولادة عالم متعدد الأقطاب، انطلاقا من موازين القوى الاقتصادية والعسكرية الجديدة التي نشأت وأدت إلى تراجع القوة الأميركية ووضع حد لهيمنتها الأحادية، وهذا الصراع يؤكد بأن العالم عاد إلى الحرب الباردة لكن بسمات جديدة، حرب باردة أكثر سخونة مما كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي، وفي ظل انتفاء الصراع الأيديولوجي. حرب باردة ساخنة، لأن الحرب العالمية ليست ممكنة بسبب التداخل الاقتصادي العالمي من ناحية، وامتلاك جميع الدول المتصارعة الأسلحة النووية القادرة على تدمير العالم.

باختصار أنها معركة النظام العالمي الجديد الذي باتت ولادته محتمة انطلاقا من موازين القوى العالمية الناشئة والتي لم تعد تسمح باستمرار نظام القطب الأوحد، وان حاولت أميركا ممانعة ذلك لحين، لكنها في النهاية ستسلم بهذه الحقيقة باعتبارها أمرا واقعا لا يمكن تجاهلها أو الحيلولة دونها.