الهجوم العسكري على ​سوريا​ في أعقاب الهجوم الكيميائي المزعوم على مدينة دوما، السبت الماضي، يضعنا مرة أخرى أمام صورة ​أميركا​ التي لا نحبها. أميركا المنقسمة على نفسها في كل شيء، ما عدا الاتفاق على شن الحروب على الآخرين.

ظاهرياً، تبدو ​الولايات المتحدة​ متأرجحة بين أميركا زرقاء وأخرى حمراء، منقسمة على نفسها بين ديمقراطيين وجمهوريين في كل صغيرة وكبيرة. في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة والحريات العامة. لكن في العمق، وحين تدق طبول الحرب، تغدو حمائم الديمقراطيين أشد قسوة وشراسة من صقور الجمهوريين. تماماً كما هو الحال في ​إسرائيل​، حيث تثبت الوقائع أن «حزب العمل» اليساري العلماني كان –تاريخياً– أكثر وحشية وقمعاً وشناً للحروب على الفلسطينيين من «حزب الليكود» اليميني المحافظ.

في اليومين الأخيرين، أبدى الديمقراطيون حماسة منقطعة النظير لدفع الرئيس الجمهوري إلى الحرب على سوريا، مع أنهم كانوا منذ اللحظة الأولى لوصول ​دونالد ترامب​ إلى ​البيت الأبيض​، يتربصون به، ويكيلون له شتى الاتهامات، بدءاً من التواطؤ مع الروس في الانتخابات الرئاسية، إلى فقدانه للياقة الأدبية والسياسية، وصولاً إلى اتهامه بالخرف والجنون. لم يتركوا منقصة إلا وحاولوا إلصاقها بالرئيس!

ولكن عندما توعد ترامب الروس (والإيرانيين والسوريين) بالصواريخ «الرائعة والحديثة والذكية»، في تغريدة على «تويتر»، الثلاثاء الماضي، بدا وكأن الديمقراطيين هم الأكثر حماسة وتشجيعاً لدونالد ترامب. لم يطالبوا البيت الأبيض بالتمهل ريثما تتكشف نتائج التحقيق وتنجلي حقائق الهجوم الكيميائي المزعوم في دوما، وعما إذا كانت ​الحكومة السورية​ فعلاً هي المسؤولة عن المجرزة البشعة إن حصلت كما أظهرت لقطات الفيديو التي ضجت بها وسائل الإعلام في غضون ساعات قليلة. السؤال الأهم، لماذا تلجأ الحكومة السورية إلى استخدام الأسلحة الكيميائية وقد ربحت الحرب، وأعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها بعد أن هزمت «داعش» في سوريا؟

الحقيقة هي أن الليبراليين يختلفون عن المحافظين في كل شيء، إلا فيما يتعلق بالقضايا العربية، فكلا الطرفين ليس لديه أدنى اعتبار لأرواح العرب والمسلمين، وحقوقهم ومصالحهم، وكراماتهم وأوجاعهم.. حتى يُخيّل إليهم وكأنهم مجرد فائض بشري!

وهكذا فجأة، اتفق الجميع، في الكونغرس والإعلام والأوساط الفكرية، على ضرورة شن الحرب على سوريا والإطاحة بالأسد، لأنه رجل شرير ينبغي حذفه من المشهد حالاً. فمثلاً، قلّما يتفق اليميني المحافظ ​ليندسي غرام​ مع اليساري هاورد دين، بل يمكن بسهولة القول إنهما لا يتفقان على أي شيء مطلقاً، ومع ذلك انبرى كلاهما للحض على العدوان. السناتور غرام يطالب بهجوم كاسح على القوات السورية، أما دين –الذي ترشح ذات يوم للرئاسة الأميركية كمرشح سلام– فهو يذهب أبعد من ذلك، حيث كتب في تغريدة على «تويتر» مطالباً الرئيس بإرسال آلاف الجنود إلى سوريا وقصفها بأطنان من القنابل.

تقريباً، الجميع في أميركا ردد بأن الرئيس الأسد هو المسؤول عن هجوم دوما الكيميائي وقتل عشرات الأطفال بالغازات السامة، ولكن كيف توصلوا إلى هذا اليقين المطلق؟ وكيف عرفوا بحقيقة ما يجري هناك؟ من نافل القول.. إنهم لا يعرفون ما حدث، ولكنهم يقومون بفبركة الأكاذيب أو ركوبها، وهذا ليس جديداً على النخب الأميركية، فالجميع يتذكر الاتهامات الملفقة التي تذرعت بها أميركا، من أجل غزو ​العراق​.

في نيسان (أبريل) 2017 شنت ​البحرية الأميركية​ هجوماً صاروخياً على مطار الشعيرات وقصفته بـ59 صاروخ توماهوك، وكان ذلك الهجوم رداً على الهجوم الكيميائي على مدينة ​خان شيخون​ الذي اُتهمت الحكومة السورية بتنفيذه. وقبل شهرين اعترف وزير الدفاع الأميركي ​جيمس ماتيس​ بأنه لا يوجد دليل لدينا على أن الأسد استخدم غازات سامة. وتبين أن القصة بأكملها كانت دعاية تهدف إلى التلاعب بالأميركيين، ويبدو أن هذه الدعاية لن تنتهي، رغم أنها باتت أشبه بأسطوانة مشروخة.

وكذلك في ولاية ميشيغن، حث السناتور الديمقراطي غاري بيترز الرئيس ترامب على اتخاذ إجراء حازم ضد سوريا، حتى قبل إطلاق تحقيق دولي لتحديد من الجاني الفعلي في مجزرة دوما. من المؤسف فعلاً أن يسارع بيترز إلى تأييد القيام بعمل عسكري ضد سوريا، بينما بقي صامتاً على جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين العزل الذين لم تجف دماؤهم بعد، كما تجاهل حقيقة أن الدولة العبرية هاجمت سوريا قبلاً، وانتهكت سيادة لبنان، ناهيك عن أن بيترز لم ينبس ببنت شفة فيما يتعلق بالمجزرة المتواصلة في اليمن منذ ثلاث سنوات.

بيترز قال في بيان: «لا بد من مواجهة هجوم الأسلحة الكيميائية المريع وغير القانوني على أهالي دوما الذين عانوا لسنوات من القصف العشوائي.. لا بد من رد سريع وحازم من المجتمع الدولي بأسره». وأضاف «لقد أيدت قرار الرئيس ترامب بشن ضربات جوية بعد هجوم الأسلحة الكيميائية في العام الماضي ب​محافظة إدلب​.. يجب أن ترسل الولايات المتحدة –ومعها العالم– رسالة موحدة إلى ​بشار الأسد​، مفادها أن ​السلاح الكيميائي​ ليس له مكان في عالمنا».

بيترز وغرام ودين ، على الأرجح لم يسمعوا بتصريح وزير الدفاع جيمس ماتيس قبل نحو شهرين، حين أكد «أنه لا دليل على استخدام الأسد للغاز السام ضد شعبه»، ولكنهم سيكونوا سعداء جداً –كغيرهم من الديمقراطيين والليبراليين في هذه البلاد– إذا ما أوصل الرئيس ترامب أميركا والعالم الى حرب جديدة لا يعرف مدى نتائجها الكارثية!