حينما كنت صغيرا، كان الخوف يتملّكني وارتعب كلما مررت ليلا بصالون المنزل العائلي حيث علقت في صدر الدار ثلاث صور كبيرة لأقارب والدي. صور بالاسود والابيض تخترق خيالي وترعبني خصوصا في ايام الشتاء، فكيف إذا مررت بها بعد عرض مسلسل «عشرة عبيد زغار» للمبدعة لطيفة ملتقى ورفاقها. وكنت، في كثير من الاحيان، أعبر الصالون مغمض العينين، محاولاً طرد الخوف من قلبي، او اجتاز الدار مسرعا ومشيحا نظري عن تلك الصور. ولحسن حظي، فان والدتي سرعان ما أزالت تلك الصور واستبدلتها بلوحة ملونة تمثل الطبيعة ما زالت مركونة هناك على الحائط شاهدة على احداث المنزل العائلي.

تذكرت تلك الحقبة الزمنية الجميلة مع بدء ​الحملات الانتخابية​. حاصرتنا صور المرشحين والمرشحات من كل حدب وصوب. صور على اللوحات الاعلانية وعلى الاعمدة الكهربائية. بعضها تدلّى من الجسور او عُلّق على الشرفات وأطرفها ما تدلّى من حبال الغسيل. اينما نظرت، لا ترى سوى وجوها ملونة وعيوناً تطل عليك من المفروض ان تحمل معها مشروعا سياسيا او اجتماعيا او اقتصاديا. لكن للأسف غادرت الصورة الفوتوغرافية وظيفتها الاساسية في الحملات الانتخابية وصارت تنبئ بالفراغ القاتل الزاحف إلينا. صحيح انه لا بد من الاعتراف بأنها مشغولة باتقان وحرفية لكي تتسلل بذكاء الى مشاعرنا وعواطفنا وحواسنا نحن معشر الناخبين. لكنها، لكثرتها وزيفها الماثل امامك وللتجارب المرة مع من تمثل، تشعرك بالضيق والقرف والخوف. والانكى انك لن تجد طريقة للهروب منها. فتقوقعك في المنزل طوال هذه الفترة غير ممكن، اضافة الى ان الوجوه ستطل عليك من شاشات التلفزيون بشحمها ولحمها وكلام عن مشاريع لا ينتهي. واغلاق عينيك طوال النهار مستحيل،. وخروجك من المدينة لا يفيدك، فتلك الوجوه غزت الجبال والقرى والسهول وصولا الى اصغر دسكرة. انه زمن الصورة والوجوه الملقاة علينا من دون ان يتمكن ​القانون الانتخابي​ من ان يحمينا منها.

في عصر التكنولوجيا، ليس صدفة ان تضحي صورة المرشحين اكثر اهمية من الايديولوجيات او الانتماءات الحزبية. لكننا كعادتنا في ​لبنان​ حولناها الى مسخرة وفوضى واداة للاطباق على النفس، واسوأ من تلك الصور الشعارات التي تعرّف عن المرشحين. اذ اقل ما يقال فيها بأنها بالية وسطحية وسخيفة وتقوم على استغلال اسماء ​الدوائر الانتخابية​ او اللعب على اسماء المرشحين ما يشعرك وانت تقرأها بوجع في الرأس والمعدة لا شفاء منه.

هذا الشعور المستجد الذي يلاحقني منذ فترة دفعني لأفتش عن تلك الصور القديمة التي كانت معلقة في المنزل العائلي، وحينما وجدتها على «التتخيتة» بمساعدة والدي، رحت اتأملها، فلم اخف او اشمئز منها. إذ أنها تعود لاشخاص خلّدوا لحظة يعيشونها بشكل طبيعي تماما كوجوه تلك الصور التي يلتقطها المصورون يوميا لاناس يعيشون حياتهم بافراحها وأتراحها. وأدركت ان المشكلة لم تكن يوما

بالصورة وانما بما تمثل... فرجاء أبعدوا وجوهكم عنّا.