"النظريّات والتكهّنات بشأن الذي حدث كثيرة... بإختصار أقول إنّ الإقالات التي حصلت لها سبب واحد هو المُحاسبة"، بهذا الكلام علّق رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ على الإقالات التي طالت العديد من المسؤولين في "تيّار المُستقبل" في ضوء النتائج التي تحقّقت في الإنتخابات. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل من شملتهم قرارات الإقالة الأخيرة دفعوا ثمن ذنب لم يرتكبوه؟.

كلام كثير قيل بشأن الإقالات التي طالت عددًا كبيرًا من مسؤولي "تيّار المُستقبل"، حيث تحدّث البعض عن عمليّات بيع أصوات لغايات شخصيّة بعيدًا عن العمل الحزبي المُنظّم، وعن تحرّك بعض ماكينات وكوادر "التيّار الأزرق" بشكل مُخالف للتعليمات الحزبيّة العليا، وحتى عن عملها لصالح مُرشّحين على لوائح منافسة! وتحدّث البعض الآخر عن أوراق فداء قدّمها رئيس الحُكومة لتصحيح علاقته مع المملكة العربيّة السُعودية، من خلال التخلّي عن مُدير مكتبه، وإبن عمّته، ​نادر الحريري​ الذي قدّم إستقالته طوعًا بالتزامن مع صُدور قرارات الإقالة العلنيّة بحقّ باقي مسؤولي "تيّار المُستقبل" بحجّة "المُحاسبة"، أي من دون أدنى حفظ لكراماتهم ولجُهودهم، بغضّ النظر عن النتائج التي حقّقوها، بعكس نادر الذي حظي بتمايز الإستقالة الطوعيّة التي تحفظ ماء الوجه، أقلّه على المُستوى العلني.

ولا شكّ أنّ مسؤولي هيئات شؤون الإنتخابات ومُنسّقيّات بيروت والبقاع الغربي وراشيا والبقاع الأوسط والكورة وزغرتا الذين طالتهم قرارات الإقالة من جانب رئيس "تيّار المُستقبل" شخصيًا، يتحمّلون جزءًا مُهمّا من التراجع الكبير الذي طال حجم وحُضور "تيّار المُستقبل" في المجلس النيابي، شأنهم في ذلك شأن مسؤول الماكينة الإنتخابية والمُنسّق العام للإنتخابات، وسام الحريري، ومدير دائرة المُتابعة في مكتب رئيس "تيّار المُستقبل"، ماهر أبو الخدود، الذي أعُفي من مهامه في "التيّار"، علمًا أنّه كان عمل في المرحلة الأخيرة كمستشار لوزير الداخليّة ​نهاد المشنوق​. لكن من غير المنطقي على الإطلاق حصر الخسارة التي لحقت بالتيّار الأزرق بهؤلاء المسؤولين، بغضّ النظر عن درجة تقصير كل منهم، وعن سوء تقدير بعضهم، وعن مُخالفات بعضهم الآخر. فالأكيد أنّ جزءًا كبيرًا من الخسارة التي لحقت بتيّار المُستقبل لا يعود لأسباب تنظيميّة أو لأسباب حزبيّة داخليّة مُرتبطة بأسلوب قيادة المعركة الإنتخابيّة، إنما لأسباب تفوق بكثير قُدرة هؤلاء المسؤولين، ويتحمّل مسؤوليتها رئيس "تيّار المُستقبل" شخصيًا. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: غياب الرؤية السياسية الإستراتيجيّة لقيادة "تيّار المُستقبل"، وتبدّل خُطابها السياسي بشكل عشوائي، والإنتقال من خطاب إلى آخر مُناقض خلال فترات زمنيّة مُتقاربة، الأمر الذي تسبّب بضياع الناخبين ودفع الكثيرين منهم إلى التنحّي جانبًا من باب الإمتعاض والإعتراض.

ثانيًا: دُخول "تيّار المُستقبل" في تحالف سياسي–مصلحي مع "التيّار الوطني الحُر"، بالتزامن مع وُصول علاقاته مع حلفائه الطبيعيّين ضُمن تحالف "​14 آذار​" السابق إلى أدنى مُستوياتها، بحيث جرى مُحاربة ومنافسة مُرشّحي كل من "الكتائب" و"القوات" في أغلبيّة الدوائر، مع إستثناءات محدودة لدواع إنتخابيّة مصلحيّة ضيّقة، والتعامل إنتخابيًا على مضض وفي ظلّ خلافات كبيرة مع مُرشّحي "​الحزب التقدمي الإشتراكي​". وحتى التحالف مع "الوطني الحُرّ" لم يكن منطقيًا، حيث جرى تشكيل لوائح مُشتركة في بعض الدوائر، بينما تواجه الطرفان بشراسة في دوائر أخرى، في غياب أي رؤية سياسيّة مُحفّزة للناخبين!.

ثالثًا: فشل التحالفات الإنتخابية–المصلحيّة التي نسجها "تيّار المُستقبل" مع "التيّار الوطني الحُرّ" في بعض الدوائر الإنتخابيّة في ترجيح الكفّة لصالحه، بحيث كانت الإفادة لصالح مُرشّحي "الوطني الحُرّ" على حساب مُرشّحي "المُستقبل"، كما حصل في بيروت الأولى وفي الكورة، على سبيل المثال لا الحصر.

رابعًا: إمتعاض جزء كبير من مُناصري "تيّار المُستقبل" من تحوّل معركة قيادة "التيّار الأزرق" إلى داخل البيئة السنّية، وضُدّ شخصيّات كانت محسوبة من "الصُقور"، بدلاً من مُواجهة مُحاولات الخرق لشخصيّات وقوى محسوبة على قوى "8 آذار"، إضافة إلى تصويت جزء من المؤيّدين المُفترضين لصالح اللوائح التي دعمها اللواء ​أشرف ريفي​.

خامسًا: لجُوء رئيس الحكومة سعد الحريري إلى خطاب إنتخابي يتناقض مع مُمارساته على الأرض منذ أكثر من سنتين حتى اليوم، بحيث بدا هذا الخُطاب بعيدًا عن المُمارسات الفعليّة، وعرّض مصداقية القيادة إلى الإهتزاز أمام مُحبّيها.

سادسًا: تدهور علاقة رئيس "تيّار المُستقبل" الشخصيّة مع قيادات رئيسة في السعوديّة، وغياب الدعم الإقليمي المُهم الذي كان يتأمّن للتيّار الأزرق على أكثر من مُستوى، سياسي ومعنوي ومالي، إلخ.

وبالتالي، ومن الواضح أنّ العديد من أسباب تقلّص حجم كتلة "تيّار المُستقبل" يتحمّل مسؤوليتها رئيس "التيّار الأزرق" سعد الحريري دون سواه، وليس بعض المسؤولين التنفيذيّين عن ماكينة التيّار الإنتخابية على الأرض.

وفي الختام، لا بُد من الإشارة إلى أنّه في كل الدول المُتحضّرة، وعلى مُستوى الأحزاب الديمقراطية التي تحترم نفسها، يتحمّل رأس الهرم أي إخفاق أو فشل، بحيث يُسارع عادة رئيس الحزب إلى تقديم إستقالته في حال فشل حزبه في الفوز بأي إنتخابات، إلا في لبنان، حيث تلقّت أحزاب وتيّارات عدّة ضربات إنتخابيّة قاسيّة ومُوجعة، من دون أن يرفّ جفن من جفون عيون رؤسائها!.