لفت بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الكاثوليك ​يوسف العبسي​، عقب ترؤسه قداساً إلهيّاً في كاتدرائية مار نيقولاوس داخل السوق التجاري في ​مدينة صيدا​، في حضور النواب: ​زياد أسود​، ​ميشال موسى​ و​سليم خوري​، وفاعليات منطقتي صيدا وجزين وحشد من ابناء الرعية، إلى أنّ "قدماي تطأن هذه الكاتدرائية المقدسة للمرّة الأولى في حياتي، وأشعر بتأثّر بالغ لأنّ أبرشية صيدا لها، بالإضافة إلى كونها من أقدم الأبرشيات ومن الأراضي الّتي زارها يسوع وسمعت كلامه، دور كبير في نشأة كنيستنا الملكية لا سيما في عهد مطرانها أفتيميوس صيفي الّذي أسّس ​الرهبانية الباسيلية المخلصية​ الكريمة وأطلقها لتثبيت ونشر حركة الكثلكة الّتي كان من أنصارها حتّى قبل الإنقسام الّذي حصل في عام 1724". وأشار إلى أنّ "منذ تلك الأيام، وبالرغم من الأحوال المتقلقلة الحرجة الّتي كانت تمرّ بها كنيستنا، كان لأبنائنا الصيداويين، ومن ثمّ الجنوبيين، نصيب في صنع تاريخها، وفي صنع ​تاريخ لبنان​ على جميع الأصعدة، إلى هذا اليوم".

وأوضح أنّ "حضور ​الروم الملكيين الكاثوليك​ في هذه المنطقة تعود جذوره إلى الجماعات المسيحية الأولى، وقد عرفوا، عبر التاريخ وما مرّ عليهم فيه من تقلّبات ومن حوادث الدهر، أن يعيشوا بسلام ووئام مع الآخرين جميعاً، وأن يكونوا مرنين منفتحين رجال حوار ودعاة توفيق، وأن يحافظوا على أرضهم ويبقوا فيها، وأن يبنوا بلدهم مع شركائهم في الوطن. هذا تاريخنا ومن واجبنا أن نسير في خطه فلا نفرّط بالعيش معاً في بيئتنا ولا نفرّط بالأرض في بلدنا".

وركّز العبسي على "أنّني سعيد ومرتاح إلى ما يقوم بع راعي الأبرشية المطران إيلي حداد، من مشاريع عمرانية واجتماعية تندرج في هذا الخط التاريخي لكنيستنا، من بناء مئتي مسكن للعائلات الجديدة وثلاث مدارس ومأوى للعجزة، بالإضافة إلى مشاريع زراعية عديدة، خلقت كلّها حوالي أربعمئة وظيفة، ممّا شجّع على ارتفاع عدد المسيحيين في منطقة شرقي صيدا"، منوّهاً إلى أنّ "المطران بشارة إذ يعمل كلّ هذا، يتابع عمل أساقفة كبار وقديسين سبقوه".

ونوّه إلى "أنّنا سمعنا النداء الّذي ختم يسوع به تعليمه واختصره به في إنجيل اليوم: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي هو كامل". بهذه العبارة حدّد لنا ​السيد المسيح​ القاعدة العامة لسلوكنا. حدّد سقف سلوكنا، وحدّد لنا يسوع العلامة الّتي يجب أن نحصل عليها في أخلاقنا، وما أعلاها، إنها العلامة الكاملة: مئة من مئة"، مبيّناً أنّ "لذلك ما عاد المسيحي يكتفي بتتميم الوصايا الّتي يتمّمها الناس بشكل عام كأن نحبّ من يحبنا ونسلّم على إخواننا، كأن لا نقتل ولا نسرق ولا نزني. هذا سلوك جيّد لكنّه سلوك مفروغ منه في نظر يسوع".

وشدّد البطريرك على أنّ "يسوع يطلب منّا أن نذهب إلى أبعد من ذلك، إلى ما لا يفعله الآخرون بشكل عام، إلى أن نعطي ونبذل ونضحي أكثر ممّا تطلب منّا الشريعة أو الأعراف الإجتماعية أو الإتفاقات الإنسانية. كلّ الناس، حتّى الوثنيين، يحبّون من يحبّهم ويسلّمون على إخوانهم"، لافتاً إلى أنّ "من يأمر بكمال الله لا يعد يأمر بما هو دون الكمال، لا يعد يأمر بأن لا تقتل، لا تسرق، لا تزن. لذلك لم يشأ يسوع أن يضع لتلاميذه شريعة أو كتاباً على غرار ما فعل موسى وغيره من الأنبياء، فإنّ الكمال ليس من شريعة أو قواعد تحده، بل ترك وصية، وصية واحدة هي وحدها في نظره قادرة إذا ما نفذت، على البلوغ بنا إلى الكمال المنشود. إنّها ​المحبة​".

وأشار إلى أنّ "ما يفسر تفكير يسوع، وتفكير بولس من بعده وتفكير الكنيسة أيضاً، هو أنّ السيد المسيح لم يأت ليؤسّس ديناً يحدّد لنا فيه ما ينبغي علينا أن نعمله، لم يأت ليكرر موسى والأنبياء، بل أتى يكملهم كما قال، جاء يعلن للعالم أجمع بشرى الخلاص، أتى يكشف عن محبة الله لجميع الناس، قدم يخبر البشر أن الله ليس خصما لهم بل هو أب لهم وهم أبناء له، ويعلمنا أن ننظر إلى علاقتنا بالله تعالى نظرة الابن إلى أبيه فلا نناديه بالرب أو بالسيد بل بالأب".

وشرح العبسي "أننا نحن المسيحيين لا نبدأ بالوصية لننتهي إلى الله، لا نرتقي من الشريعة أو بالشريعة إلى الله، بل نبدأ من الله وننزل من الله لننظر، لنحكم في سلوكنا: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض". ولما كان الله في السماء محبة، كما أخبر الإنجيلي يوحنا، وجب علينا أن نسلك نحن على الأرض بمقتضى المحبة لأنهّا "رباط الكمال"، كما يقول بولس، أي إنّها الشيء الّذي يربطنا بالله الكامل بحيث لا نعود نفعل الشر. هذا ما جعل القديس أوغسطينوس يتجرأ على القول: "إذا أنت أحببت فافعل ما تشاء"، لعلمه بأنّ الّذي يحب مرتبط بالله، هو من الله، كما يقول الرسول يوحنا، فلا يفعل الشر".