الاحتفال ب​عيد المقاومة والتحرير​ في لبنان هذا العام كانت له معانٍ ودلالات عديدة تعزّز من حيث أبعادها النتائج الاستراتيجية الهامة التي أحدثها انتصار المقاومة على جيش الاحتلال الصهيوني، أقوى جيش في المنطقة، عندما ألحقت الهزيمة المذلة به وأجبرته على الانسحاب تحت جنح الظلام قسراً بلا أيّ شرط أو ثمن مقابل أو توقيع معاهدة أو ترتيبات أمنية، وبدّدت واقع الهزيمة والاستسلام الذي ساد الواقع العربي بعد الهزائم المتتالية التي مُني بها العرب أمام جيش الاحتلال الصهيوني، وأدّت إلى احتلال الصهاينة كامل أرض فلسطين العربية من النهر إلى البحر وأجزاء من الأراضي العربية في لبنان والجولان السوري وسيناء المصرية.

فإذا كانت أهداف الحروب الصهيونية الأميركية المباشرة، التي تمثلت في ​حرب تموز​ عام 2006، وغير المباشرة التي شنت بوساطة القوى الإرهابية التكفيرية ضدّ سورية العروبة والمقاومة، أو عبر الاغتيالات والتفجيرات في لبنان، إذا كان الهدف الأساسي من هذه الحروب هو الثأر للهزيمة الصهيونية والقضاء على المقاومة ومحو النتائج الهامة التي حققتها بنجاحها في تحرير معظم الأراضي اللبنانية في الجنوب والبقاع الغربي وتشكيل نموذج للجماهير العربية في مواجهة الاحتلال، فإنّ هذه الحروب لم تحقق أهدافها، وهي فشلت في إسقاط الدولة الوطنية السورية المقاومة. وبالتالي لم تنجح في كسر المقاومة وإعادة بث ثقافة الهزيمة والاستسلام تمهيداً لتصفية قضية فلسطين وإعادة تعويم مشروع السيطرة الاستعمارية على كامل العالم العربي ومحاصرة وعزل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في سياق مخطط محاولة إسقاط نموذجها التحرّري الاستقلالي المناهض للهيمنة الاستعمارية والداعم للمقاومة العربية ضدّ الاحتلال الصهيوني، الذي كرّسه انتصار الثورة الإسلامية وإسقاط نظام الشاه العميل للغرب وكيان العدو.

ومَن يدقق في المشهد الميداني والسياسي في لبنان والمنطقة يلحظ بوضوح فشل هذه الأهداف الأميركية الصهيونية، وأن انتصار المقاومة في 25 أيار 2000 قد تعزّز وتحصّن، وأنّ المقاومة ازدادت قوة ومناعة، وأنّ مأزق العدو الصهيوني قد تفاقم، ويظهر ذلك من خلال النتائج التالية التي أسفرت عنها الحروب الأميركية الصهيونية…

أولاً: اقتراب إعلان انتصار محور المقاومة في سورية على أشرس حرب إرهابية استعمارية بقيادة الولايات المتحدة، وما تزامن الاحتفال بتطهير محيط دمشق ومحافظة ريف دمشق ومحافظة حمص بالكامل من قوى الإرهاب وعودتها إلى كنف الدولة السورية، مع الاحتفال بذكرى انتصار المقاومة عام الفين إلا دليل قوي على سقوط محاولات تحويل سورية دولة تابعة وعميلة للغرب الاستعماري، وبقاء سورية قلب العروبة وقلعة المقاومة وسنداً لفلسطين ومقاومتها ولكلّ أحرار الأمة التواقين إلى التحرّر من الاستعمار والاحتلال وتحقيق العزة والكرامة العربية وبناء نموذج التنمية الاقتصادية المستقلة التي تحقق العدالة الاجتماعية. ومثل هذا الانتصار لسورية ومحور المقاومة وخط الاستقلال والتحرر الوطني إنما يشكل هزيمة استراتيجية للمشروع الأميركي الصهيوني وأدواته العميلة في المنطقة كلها.

ثانياً: نجاح سورية وحلفائها في محور المقاومة بفرض معادلات ردع جديدة في مواجهة العدوان الصهيوني الأميركي المباشر على سورية بهدف إنقاذ الإرهابيين من الهزيمة، من خلال الانتقال من مرحلة التصدّي للطائرات أو الصواريخ المعادية ومنعها من تحقيق أهدافها، إلى الردّ على العدوان بقصف مواقع جيش الاحتلال في الجولان المحتلّ مما أربك قادة العدو وحدّ من حرية اعتداءاتهم وغيّر قواعد الاشتباك في الصراع مع كيان الاحتلال، الأمر الذي وسّع معادلة الردع وتوازن الرعب التي فرضتها المقاومة في لبنان في مواجهة العدوانية والأطماع الصهيونية لتشمل سورية، وبالتالي تتحوّل الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة بكاملها جبهة واحدة تحاصر العدوانية الصهيونية وتشكل بيئة استراتيجية جديدة تعزز خط المقاومة ضدّ الاحتلال وتشكّل سنداً قوياً لمقاومة وانتفاضة شعبنا العربي في فلسطين المحتلة.

ثالثاً: فشل المشروع الأميركي الصهيوني في سورية ولّد موازين قوى ومعادلات جديدة لمصلحة الدول التي تسعى إلى وضع حدّ للهيمنة الأميركية الاستعمارية في المنطقة والعالم، وأدّى ذلك إلى تعزيز المطالبة بإعادة تشكيل النظام الدولي سياسياً واقتصادياً ومالياً على قواعد جديدة تقوم على التعاون والتعددية واحترام القوانين الدولية، وظهر ذلك بوضوح من خلال نجاح روسيا في استعادة دورها على الساحة الدولية من البوابة السورية، ومن خلال تزايد مؤشرات الضعف في قدرة واشنطن على فرض هيمنتها وإجبار أوروبا على السير خلف قراراتها في الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية عليها، وكذلك في إخفاق الإدارة الأميركية في فرض قواعدها للتعاملات التجارية مع الصين وأوروبا ودول المحيط الهادي واضطرار واشنطن للعودة إلى التفاوض مع هذه الدول لإيجاد حلول مشتركة.

رابعاً: فشل الحرب الإرهابية في سورية وسقوط الرهانات على تغيير نظامها الوطني العروبي المقاوم برئاسة الرئيس بشار الأسد انعكس إيجاباً على لبنان لمصلحة تعزيز خط المقاومة والقوى الوطنية الداعمة لها، وأدّى إلى إصابة قوى 14 آذار بالخيبة والخذلان، لأنها كانت تراهن على تغيير موازين القوى الإقليمية للاستقواء بها في الداخل وتكريس هيمنتها على السلطة والعودة إلى سياسة محاصرة المقاومة والمطالبة بنزع سلاحها تنفيذاً للأوامر الأميركية الغربية.

على أنّ هذا الانعكاس الإيجابي تجسّد في الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة التي أدّت نتائجها إلى انتصار ملحوظ لمرشحي المقاومة والقوى الوطنية وتبدّل موازين القوى في البرلمان لمصلحة القوى المتمسكة بالمقاومة وسلاحها للدفاع عن لبنان في مواجهة التهديدات والأطماع الصهيونية في أراضي وثروات لبنان النفطية والغازية والمائية، في إطار معادلة الجيش والشعب والمقاومة. وهذا التبدّل في موازين القوى تمثل في انتقال الأغلبية النيابية من قوى 14 آذار إلى قوى 8 آذار وحليفها التيار الوطني الحر الذي يلتقي معها في العديد من القضايا وفي طليعتها القضايا الوطنية.

إنّ هذه النتائج الميدانية والسياسية إنما تشكل تغييراً كبيراً لمصلحة مشروع المقاومة يوجّه ضربة موجعة للمخطط الأميركي الصهيوني وأدواته العملية الذي استغلّ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 لإثارة الفتنة وإحداث انقلاب شامل في لبنان والمنطقة للتخلّص من المقاومة وسلاحها وإسقاط النموذج الريادي الذي مثلته في مواجهة الاحتلال الصهيوني. ولهذا فإنّ هذا التغيير الذي جاء متزامناً هذا العام مع الاحتفال بعيد انتصار المقاومة عام 2000 أسدل الستار على هذا الانقلاب وكرّس المعادلات التي فرضتها المقاومة ومحورها في الصراع مع المشروع الأميركي الصهيوني والأنظمة الدائرة في فلكه.