صحيحٌ أنّ رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ لم يتخطّ بعد السقف "المعقول" لتأليف الحكومة الجديدة، مقارنةً بالتجارب السابقة التي كان يستغرق فيها تأليف الحكومات أشهراً طويلة، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ عدم نضوج المعطيات الحكومية حتى اليوم نسف بشكلٍ أو بآخر موجات التفاؤل التي سادت بعد تسمية الحريري، الذي ذهب لحدّ "التبشير" بولادةٍ حكوميّة تسبق عيد الفطر.

وإذا كان رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ اختصر المسألة بقوله لزواره ان "لا حركة جديّة في الملف الحكومي"، فإنّ الواضح أنّ الحريري "يتريّث" حتى إشعارٍ آخر بإطلاق المفاوضات "الجدية" لتأليف الحكومة، تاركاً الأمر حتى إشعار آخر بيد الوسطاء، وفي مقدّمهم وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال ​غطاس الخوري​، ما يطرح أكثر من علامة استفهام، فما الذي ينتظره الحريري عملياً؟ وبكلامٍ أدقّ، ما الذي يراهن عليه؟.

العقد لم تتغيّر

على الرغم من قول الحريري قبل أيام إنه "داعس بنزين" في مسألة تشكيل الحكومة، إلا أنّ كلّ المعطيات الواقعية والملموسة لا توحي إلا بأنّه "متريّث" حتى إشعار آخر، حتى بإطلاق عجلة المفاوضات بشكلٍ جدّي ومباشر، بعيداً عن "الوساطات"، لدرجة أن ما حُكيَ عن "مسودّة أولى" بتوزيع الحقائب نقلها الحريري إلى الرئيس عون ميشال عبر الوزير غطاس خوري لم يبدُ دقيقاً، أولاً لأنّ مثل هذه المسودّة إن وُجِدت يفترض أن ينقلها الحريري شخصياً، فضلاً عن كون المسودّة التي سُرّبت أتت بمثابة استنساخ للحكومة السابقة، من دون مراعاة للمعايير المستجدّة بعد الانتخابات.

ولعلّ خير دليل على أنّ "التريّث" هو سيّد الموقف في الفترة الحالية أنّ أيّ تقدّمٍ لم يطرأ حتى الساعة على أيّ من العُقَد التي يبدو أنها تتصاعد بدل أن تتقلّص، وعدم إعلان أيّ طرف نيّته تقديم أيّ "تنازل" على خطها، باعتبار أنّ أيّ "مفاوضات" لم تحصل مع أحد بعد لخفض السقف. فعقدة "​التيار الوطني الحر​" و"​القوات اللبنانية​" مثلاً لا تزال على حالها، وإن وصلت الاتصالات الثنائية بين "المستقبل" و"القوات" إلى شبه حسم بأنّ عزل "القوات" غير مطروح، إلا أنّ "القوات" لا تزال في المقابل تطالب بحصّة موازية لحصّة "التيار" تتضمّن موقع نيابة رئاسة الحكومة، وهو ما يرفضه "التيار" جملةً وتفصيلاً.

وعلى غرار العقدة المسيحية، لا تزال العقدة الدرزية أيضاً على حالها، في ظلّ إصرار "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" على حقه باحتكار المقاعد الدرزية في الحكومة ترجمة لنتائج الانتخابات النيابية، فيما يصرّ الوزير ​طلال أرسلان​ مدعوماً من "التيار الوطني الحر" على الدخول إلى الحكومة، وتُرمى بين هذا وذاك "ألغامٌ" من شأنها نسف التركيبة الحكومية بالكامل، على غرار إسناد حقيبة الدفاع السيادية مثلاً لأرسلان بما يحرج "الاشتراكي". ولا يبدو الأمر مغايراً على صعيد الحقائب السنية، بين ما يُحكى عن "مستوزرين موعودين كثُر" بناءً على نتائج الانتخابات أيضاً، ورفض الحريري التنازل عن أيّ مقعدٍ سنّي في الحكومة، إلا على طريقة التبادل مع رئاسة الجمهورية في أحسن الأحوال.

حسابات خارجية؟

وفي وقتٍ لم تُعرَف الأسباب الفعلية الكامنة خلف "تريّث" الحريري، يرى البعض أنه مرتبط بشكلٍ أو بآخر بانتظار رئيس الحكومة المكلف كلمة سرّ خارجيّة على جري العادة اللبنانية، ولذلك فهو أرجأ الاندفاعة الحكومية الفعلية لما بعد عودته من موسكو نهاية الأسبوع، حيث يفترض أن يلتقي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على هامش افتتاح مباريات كأس العالم، بعدما لم يُوفَّق في لقائه في زيارته الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية، والتي وُضعت في إطار "عائلي محض".

ومع أن أوساط الرجل تنفي أيّ ربطٍ بين الأمرين، على اعتبار أنّ العُقَد التي تواجه تأليف الحكومة داخلية، وأنّ الخارج لا يتدخّل بتفاصيل تقاسم الحقائب وتوزيعها، فإنّ وجهة نظر أخرى تؤكد أنّ الحكومة الحالية لن تولد من دون رضا الخارج، خصوصاً أنّ الانتخابات أتت بموازين قوى جديدة يمكن أن تعكسها الحكومة بما لا يرضي الخارج، في مرحلة توحي الكثير من العوامل أنها ستكون "ساخنة" خصوصاً على صعيد الصراع بين أميركا وإيران، وفي ضوء العقوبات المفروضة على "​حزب الله​".

لكن حتى هذه الفرضية تجد من يعاكسها في الداخل، على اعتبار أنّ أحداً لا يتحدّث عن "عقدة" يشكّلها "حزب الله" على خط تأليف الحكومة في إطار سرد العقد الحكومية، أولاً لأنّ وجوده في الحكومة بمثابة "أمر واقع" لا قدرة لأحد على المسّ به، خصوصاً بعد نتائج الانتخابات النيابية التي كرّست حجمه التمثيلي، وفي ضوء التحالف المتين بينه وبين "​حركة أمل​"، بل تفويض أمر التحدث باسمه في المفاوضات إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري. وأكثر من ذلك، فإن طلب "حزب الله" تعزيز حضوره الحكوميّ من حيث النوع، لا يفترض أن يشكّل بدوره "عقدة"، على اعتبار أنّ ما هو مسرَّب لا يوحي بوجود أيّ نيّةٍ للتحدي من خلال المطالبة بحقائب قد تشكّل "استفزازاً" لأحد، ولو أنّ النائب جميل السيد كان طالب بإسناد حقيبة العدل مثلاً لفريقه السياسي.

"العيدية" مؤجّلة...

بعد انتهاء الحريري من الاستشارات النيابية غير الملزمة في المجلس النيابي، تحدّث عن "تفاؤل" بتأليف الحكومة سريعاً، على الرغم من كمّ المطالب المستعصية التي وصلته، والتي أوحت وكأن المطلوب تشكيل حكومة خمسينية لا ثلاثينية. قال الرجل إنّ كلّ المطالب هي ضمن سقف التوقعات، وأوحى بأنّ حلّها لن يكون صعباً، إلا أنه لم يترجم القول إلى فعل، فلم يطلق عجلة المفاوضات الجدية، وكانت النتيجة أنّ أحداً من أصحاب الطلبات لم يتراجع في ما يصبو إليه، بل إنّ التشبّث يزداد بها مع كلّ يومٍ يمرّ.

في النتيجة، الأكيد حتى الساعة أن "العيدية" التي وعد رئيس الحكومة المكلف اللبنانيين بها لن تأتي في عيد الفطر، على أمل أن يعود الرجل من رحلته الخارجية بعزيمةٍ على تحريك العجلات، سواء حمل معه كلمة سرّ أم لا، حتى لا يطول الأمر كما كان يحصل في السابق، فتصبح "العيدية" حتى مهدَّدة في الأعياد المقبلة، وليس فقط هذا العيد.