في الذكرى الخامسة لتفجير ​مسجدي التقوى والسلام​، تعمّد رئيس الحُكومة المُكلّف ​سعد الحريري​ التذكير بأنّ "ضابطين من مخابرات النظام السُوري شاركا في الجريمة ويُحاكمان غيابيًا أمام المجلس العدلي"، وذلك في مُحاولة للإلتفاف على الإندفاعة الكبيرة من قبل أكثر من مسؤول ​لبنان​ي نحو تطبيع العلاقات مع ​النظام السوري​. فهذه المسألة الخلافيّة التي كانت مُرشّحة للإنفجار بعد تشكيل الحُكومة، تحوّلت إلى مشروع خلافي من اليوم، لتُضاف إلى المشاكل التي تُواجه مُحاولات ​تشكيل الحكومة​. وفي مُقابل الرأي الداعم لإعادة تطبيع العلاقات الرسميّة بين لبنان و​سوريا​ يُوجد رأي آخر يرفض ويُعارض ذلك، وبين النظريّتين إنقسام سياسي يدلّ على عمق الهُوّة التي لا تزال قائمة في لبنان على مُستوى أكثر من موضوع أساسي وإستراتيجي.

الفريق المُؤيّد لإعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري بدون أي تأخير إضافي، والذي يضمّ كلاً من "الثنائي الشيعي" والعديد من الأحزاب والشخصيات المحسوبة على قوى "8 آذار" السابقة، إضافة إلى "التيار الوطني الحُرّ"-ولوّ إنطلاقًا من إعتبارات مُختلفة عن الآخرين تتركّز على ضرورة حلّ مسألة النازحين السوريّين، يعتبر أنّ الوقت حان لإعادة العلاقات اللبنانيّة-السورية إلى سابق عهدها، ولإزالة كل الشوائب التي سادتها منذ العام 2005 حتى الأمس القريب. وهذا الفريق يعتبر أنّ المحور الداعم لسوريا قد إنتصر، والرئيس السُوري بشّار الأسد تجاوز مُؤامرة إسقاطه، ما يعني أنّ كل القوى الإقليميّة والدَوليّة ستكون مُضطرّة عاجلاً أم آجلاً إلى التعامل معه، وأنّه يجب على لبنان عدم إضاعة فرصة ثمينة تتمثّل بالمُشاركة الفعّالة في إعادة إعمار سوريا، لما لهذا الأمر من فوائد إقتصاديّة ومالية على لبنان واللبنانيّين. وبالنسبة إلى "التيّار الوطني الحُرّ" الذي ليست له إعتراضات على ما سبق، فهو يحرص على إعادة العلاقات مع النظام السُوري للإسراع في عمليّات إعادة اللاجئين السُوريّين إلى بلادهم، وهو إجراء لا يُمكن أن يتم في حال إستمرار سوء العلاقات بين لبنان وسوريا.

في المُقابل، إنّ الفريق المُعارض للتطبيع مع النظام السُوري، والذي يضمّ "تيّار المُستقبل"، ومعه كل من حزبي "القوات اللبنانيّة" و"​التقدمي الإشتراكي​"، يعتبر من جهته أن لا تطوّرات تُبرّر إعادة تطبيع العلاقات بين لبنان وسوريا، ويدعو إلى التقيّد بموقف جامعة الدول العربيّة والدول الخليجيّة في هذا الصدد. وهذا الفريق لا يوافق على تقييم الفريق الآخر بالنسبة إلى نتائج الحرب السُوريّة، حيث يعتبر أنّ كل القرارات الدَوليّة التي صدرت خلال الأزمة السُورية كانت تتحدّث عن إنتقال في السُلطة، ما يعني أنّ بقاء الرئيس السُوري في الحُكم ليس أبديًا، وأي حلّ دائم لسوريا سيرسم خريطة إنتقالية للحُكم، بغضّ النظر عن التوازنات العسكريّة على الأرض. ويؤكّد أصحاب هذه النظريّة أنّ إعادة إعمار سوريا بشكل جدّي لا يُمكن أن يبدأ من دون تمويل مالي إقليمي - دَولي ضخم، وهذا ما لن يتحقّق قبل التوصّل إلى تسوية نهائية وشاملة تُرضي أغلبيّة القوى المعنيّة بالحرب. وفي ما خصّ مسألة النازحين، لا يُشاطر هذا الفريق "التيّار الوطني الحُرّ" رأيه بالنسبة إلى أفضل وسائل إعادة النازحين السُوريّين، حيث يعتبر أنّ حلّ هذه المُعضلة لا يمرّ بالتنسيق مع النظام السُوري، بل بتفاهمات إقليميّة ودوليّة لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ بعد كونها مُرتبطة بقضايا وملفّات أخرى، ما سيؤدّي عمليًا إلى إرجاء العودة الجَماعيّة الفعليّة إلى ما بعد الحلّ النهائي في سوريا.

وبين هذا الرأي وذاك، هوّة كبيرة، وإنقسام سياسي لم يُبدّده مُرور الأيّام ولا تغيّر بعض التحالفات-ولوّ ظرفيًا، حيث أنّ الفريق المُؤيّد للنظام السوري، يضغط لإعادة عقارب الساعة إلى الفترة التي كان فيها لبنان في وحدة مسار ومصير مع النظام السُوري، ضُمن محور إقليمي مُناهض للمشاريع الأميركيّة لمنطقة الشرق الأوسط، بينما الفريق المُعارض للنظام السُوري الحالي بالتحديد، يُطالب بسلسلة من الإجراءات قبل تسليف النظام السوري غطاء شرعيًا لبنانيّا خارج الموقف العربي المُوحّد، والأهمّ أنّه يحرص على ألا يقبل لبنان أن يكون أسير ضغط معنوي من الجانب السُوري، ليُقدّم تنازلات سياسية كُبرى للنظام، في مُقابل فتح معبر برّي هنا والفوز بمشروع إستثماري هناك، وحتى في مُقابل إجراءات يجب أن تكون قائمة كتحصيل حاصل، مثل ضبط الحدود البرّية ومنع عمليّات التهريب من سوريا إلى لبنان، والشروع في إعادة النازحين السُوريّين إلى بلادهم.

في الختام، صحيح أنّ الشأن السياسي مُتحرّك، ويجب بالتالي عدم مُقاربة ملفّ التطبيع مع سوريا من مُنطلق أحقاد سابقة، لكنّ الأصحّ أنّه يجب أيضًا عدم مُقاربة هذا الملفّ من مُنطلق مصالح إقتصاديّة ظرفيّة أو من مُنطلق تموضعات سياسيّة تضرب سياسة "النأي بالنفس" التي توافق اللبنانيّون على إعتمادها وسط الحريق الإقليمي المُستمرّ. وقد يكون من المفيد أن يسمع لبنان الرسمي-ولوّ إعتذارًا معنويًا، عن سنوات طويلة من الإحتلال ومن تغذية الحرب اللبنانيّة وقتل وخطف اللبنانيّين، ومن ثم عن سنوات طويلة من الوصاية على الحُكم في لبنان والتدخّل في الشاردة والواردة وقمع اللبنانيّين الأحرار... قبل الهرولة للتطبيع بشكل مجاني!.