كان من المفترض أن يدعو رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ إلى جلسة تشريعية ثانية تحت عنوان "تشريع الضرورة" نهاية شهر تشرين الأول الماضي، لكنّه لم يفعل في ضوء الأجواء "التفاؤلية" بولادة الحكومة، قبل أن تطيح بها "العقدة السنيّة" بإسنادٍ من "​حزب الله​".

"تريّث" بري في الدعوة إلى الجلسة لم يدم طويلاً، إذ دعا مطلع هذا الأسبوع إلى جلسةٍ تُعقَد بداية الأسبوع المقبل. اعتبر كثيرون الدعوة بحدّ ذاتها "مؤشراً سلبياً" في ما يتعلق بالحكومة، وراهن آخرون على "فيتو" سيستخدمه "​تيار المستقبل​" من باب "الضغط".

إلا أنّ "المفاجأة" تمثّلت بمسارعة إعلان "المستقبل" بعد اجتماع كتلته النيابية موافقته على المشاركة في الجلسة، من دون أيّ إشارةٍ إلى "شروطٍ" حول جدول الأعمال الذي تضمّن بنوداً كانت "طيّرت" الجلسة الأخيرة. فلماذا قرّر "المستقبل" المشاركة في الجلسة؟ ولماذا لم يحوّلها إلى مادة للضغط لتأليف الحكومة، خصوصاً أنّه يصرّ على أنّ الكرة لم تعد في ملعبه بأيّ شكلٍ من الأشكال؟!.

مصلحة للبلد؟

الأكيد أنّ رئيس مجلس النواب "تريّث" في الدعوة إلى الجلسة التشريعية، إلى أن تيقّن بأنّ الأمور باتت "شبه مقفلة" حكومياً. رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ اختار "الاعتكاف" في الخارج، معتبراً أنّه أنجز مهمّته، وينتظر "الأسماء الناقصة" من "حزب الله" لتكتمل تشكيلته بصورة نهائيّة، والأخير يصرّ على موقفه المطالب بتوزير أحد سُنّة "​8 آذار​" قبل أيّ بحثٍ أو نقاشٍ آخر.

وجد بري أنّ الانتظار لم يعد مجدياً، وأنّ الجلسة التشريعية باتت ضرورية، خصوصاً أنّ التمسّك بالأمل وحده لم يعد يكفي، في ظلّ تمسّك كلّ أطراف العقدة "المستجدّة" بمواقفهم بما لا يوحي بإمكان التوصّل إلى حلّ قريب إذا لم يتنازل أحدهم، بل ذهاب البعض في "التشاؤم" إلى حدّ استبعاد ولادة الحكومة قبل نهاية العام، وربما أكثر من ذلك، ربطاً باستحقاقاتٍ داخليّة وخارجيّة متعدّدة.

كان من المتوقّع أن تلقى دعوة بري قبولاً من أطراف كثيرة في المجلس النيابي، في مقدّمها حليفه "حزب الله"، بالإضافة إلى أصدقائه في "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، فضلاً عن "​التيار الوطني الحر​" الذي كان أعلن منذ ما قبل الجلسة التشريعيّة الأولى انفتاحه على أيّ جلسةٍ تعقد تحت عنوان "تشريع الضرورة" باعتبار ذلك مصلحة للبلد ككلّ، بمُعزَلٍ عن نظرية "التطبيع" مع أزمة تشكيل الحكومة، التي يمكن أن يُحكى الكثير حولها.

ولعلّ "مصلحة البلد" هذه هي التي شكّلت عنوان قبول "المستقبل" المشاركة في الجلسة رغم اعتبارها من كثيرين مؤشراً واضحاً على أنّ الحكومة لا تزال بعيدة، فضلاً عن رغبته التماهي مع رئيس الجمهورية "المتضامن" معه في مواجهة "العقدة السنيّة". وينطلق "المستقبليّون" في تبرير وجهة نظرهم من المعايير نفسها التي استدعت مشاركتهم في الجلسة السابقة، لناحية وجود أمور "ضرورية" تستدعي التشريع، خصوصاً أنّ البلاد مقبلة على ورشة إصلاحية واقتصادية، وأنّ تطبيق مقرّرات مؤتمر "سيدر" يتطلب ذلك.

لكنّ "المستقبليّين" الذين طيّروا الجلسة التشريعية السابقة بعد المصادقة على البنود التي اعتبروها ضمن "تشريع الضرورة"، لا يعلقون على ترتيب جدول الأعمال، الذي يتضمن بنوداً لا تدخل ضمن هذه الخانة، في نظرهم على الأقلّ، قبل غيرها، بل إنهم لم يشترطوا إعادة ترتيب الجدول حتى يشاركوا، ما يطرح بدوره أكثر من علامة استفهام.

رهانٌ على بري؟

بعيداً عن "مصلحة البلد" بعقد جلسة تشريعيّة تحت عنوان "تشريع الضرورة" أو غيره، ثمّة من يقول إنّ "مصلحة البلد" بتشكيل الحكومة أكبر، وإنّ "تيار المستقبل" الذي يعتبر نفسه "أم الصبي"، كان بإمكانه رفض المشاركة في الجلسة من حيث المبدأ، للضغط من أجل التسريع في ولادة الحكومة، خصوصاً أنّه يصرّ على عدم استعداده لأيّ "تنازل"، وانّ الكرة ليست في "ملعبه".

من هنا، يقول أصحاب وجهة النظر هذه إنّ رفض "المستقبل" المشاركة في الجلسة التشريعية كان ليشكّل "أداة ضغط" جدية، تشبه تلك التي اعتمدها البعض إبان الفراغ الرئاسي، حين رفضوا عقد جلساتٍ تحت أيّ عنوان، تفادياً للتطبيع مع الفراغ، وتحويله إلى أمر اعتيادي. ومع أنّ "المستقبل" سبق أن تجاوز هذه النقطة من خلال المشاركة في الجلسة التشريعية الأولى، فإنّ ظروف هذه الجلسة مختلفة، باعتبار أنّ رئيس الحكومة المكلف مصرّ على أنّه أنجز المهمّة، والمطلوب من غيره أن "يتواضع".

يميل أصحاب هذا الرأي إلى اعتبار أنّ بإمكان "تيار المستقبل" أن يضغط على بري، برفض الاستجابة للدعوة للجلسة التشريعية، مع إدراكه أنّها لا يمكن أن تُعقَد من دون رضاه وموافقته، والضغط على بري هنا مقترنٌ بضغطٍ على حليف بري، أي "حزب الله"، الذي باتت كرة التعطيل في ملعبه، بإصراره على توزير "سُنّة 8 آذار"، ما يرفضه "المستقبليون" شكلاً ومضموناً.

إلا أنّ لهذا الرأي رأياً مضاداً لدى فئة واسعة في "تيار المستقبل" ممّن يعتبرون أنّ "الضغط" ليس السلاح الفعّال في "المواجهة"، بل إنّ "الإيجابية" يمكن أن تكون أكثر فاعلية، خصوصاً أنّ "المستقبل" الذي يسعى للحفاظ على علاقة جيّدة مع بري، وهو ما تجلى في الكثير من المحطات السابقة، وخصوصاً في عزّ الخلاف مع "حزب الله"، "يراهن" على تدخّلٍ من الأخير لحلّ العقدة، عن طريق إخراج "أرانبه" في اللحظة المناسبة.

وإذا كان رئيس المجلس أعلن مراراً أنّه لا يتدخل في تأليف الحكومة، وأنّ هناك الكثير من "الطبّاخين" على خطها هو ليس واحداً منهم، ثمّة كثيرون يعتبرون أنّ "المفتاح" بيده، وأنّه الوحيد القادر على الحلّ من خلال "مونته" على مختلف أطراف "العقدة" الأخيرة، بل إنّ في "المستقبل" من يعتقد أنّ المَخرَج الأفضل سيكون بأن يدفع بري "سُنّة 8 آذار" إلى التنازل "طوعاً" عن مطلبهم التمثّل في الحكومة، حرصاً على البلد، بما يحفظ ماء وجه "حزب الله" وينهي الأزمة بالتي هي أحسن.

هل يفعلها بري؟

لا شكّ أنّ رهان "تيار المستقبل" على بري هو الدافع وراء "تسليفه" موقف المشاركة في الجلسة التشريعية، وإلا لكانت "المقاطعة" هي السبيل الأفضل للمواجهة، ليس رفضاً لتشريع الضرورة من حيث المبدأ، وهو ما تخطاه "المستقبليّون" منذ شاركوا في الجلسة السابقة، ولكن للإسراع بتشكيل الحكومة بشروطهم ومعاييرهم.

ولعل ما يعزّز رهان "المستقبل" على بري، الذي قال يوماً إنّه مع الحريري "ظالماً أم مظلوماً"، إنّه لا يبدو "متشبّثاً" كحلفائه في "حزب الله" بتمثيل "سُنّة 8 آذار" على حساب تشكيل الحكومة، ولو كان مقتنعاً بـ"أحقيته"، ليبقى السؤال وسط كلّ ذلك، هل يمكن أن يؤدّي موقف "المستقبل" مع بري فعلاً إلى "تقدّم" على خط تأليف الحكومة؟ وبمعنى آخر، هل يفعلها بري ويُخرِج "أرانبه" إلى الساحة، بعد "اعتكافٍ" طويل؟.