فجأة، من دون مقدمات، حل التصعيد في غزة، نتيجة اعتداء ​إسرائيل​ي على القطاع، إثر عملية اغتيال بحق احد قادة حركة 'حماس"، طرحت علامات استفهام، حول الأسباب التي دفعت تل أبيب إلى تنفيذ العملية والعدوان في توقيت حسّاس: زمن تسويق العرب للتسويات مع حركة "حماس"، ومرحلة الإنفتاح الخليجي على إسرائيل.

فهل أرادت تل أبيب التخلص من قيادات حمساوية قبل القبول بشروط التسوية التي تسوقها مصر؟ أم أن اسرائيل سعت لإيجاد حجّة تدخل من خلالها الى المطالبة بتقويض النفوذ الحمساوي في غزة، قبل انجاح التسوية، التي تخطط تل ابيب أن تكون فيها "حماس" تحت سقف تفاوضي منخفض جدا؟

في الأيام الماضية نجحت القاهرة في إمساك اللعبة الغزاوية، تمهيدا لإعلان تسوية سياسية تتيح رفع الحصار تدريجيا عن القطاع، وإدخال حركة "حماس" في لعبة التفاوض مع تل أبيب عبر دور مصري. في الوقت نفسه، كانت الدوحة تقوم بذات المهمة، عبر سفيرها في غزة، في ظل انفتاح خليجي غير مسبوق على تل أبيب، تجلى بزيارات حكومية ووفود إسرائيلية إلى سلطنة عمان، والإمارات والبحرين وقطر.

كانت كل المعطيات تشير الى ارتياح إسرائيلي تجاه الهرولة العربية نحو اقامة علاقات مع تل أبيب، لمواجهة ​إيران​. لكن عدم الثقة الاسرائيلية بالعرب، دفعت تل ابيب لتنفيذ إعتداء على غزة، من دون ان تتوقع حجم الرد الفلسطيني على اسرائيل، أو هي توقعته لاستخدامه سبيلا للانقضاض على عناصر القوة الحمساوية في غزة. علما ان هناك آراء تتحدث عن ان الرد من قبل "حماس" يقود منطقيا الى تسويق تسويات سريعة على النار، قائمة على اساس فرض شروط إسرائيلية، لإجبار الحمساويين على التنازل الى أبعد حد، وسحب عناصر القوة من بين ايدي الفلسطينيين نهائيا.

ان أي مشروع تسوية سيقود الى مطالبة تل ابيب لحركة "حماس" بإجهاض أي مخططات تشكّل خطرا على الأمن الإسرائيلي حاليا ولاحقا. لكن تل ابيب تريد ان يبقى وضع غزة قائم على اساس الانقطاع عن ​السلطة الفلسطينية​. هي لا تريد التكامل بين القطاعين، لمنع أي وحدة بين الفلسطينيين. بالنسبة اليها، فإن التباعد بين حركتي "فتح" و"حماس" وباقي الفصائل، هو أهم من اي خطط عسكرية إسرائيلية، ويحقق اهدافا تفوق الضربات، وبناء المستوطنات.

لا حاجة لإسرائيل الى غزة، فلا الحشد الفلسطيني هناك، ولا طبيعة الناس، ولا حياتهم، تسمح للإسرائيليين بالهناء في مستوطنات صهيونية. فالمطلوب ان يبقى القطاع مسالما، كأنه مخيم واسع، لا قدرة له على التنفس الا من خلال الاذونات الاسرائيلية: برا وبحرا وجوا.

لكن، هل يساعد التضييق والعمليات العسكرية القائمة بإبقاء "صفقة القرن" قيد التداول؟

المسألة لا ترتبط بالفلسطينيين، ولا بالاسرائيليين، بل باتت تتعلق بالأميركيين الذين يشهدون انقساما واضحا في مقاربة الصفقة. لم يعد الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ قادرا على تسويق فكرته من دون موافقة مجلسي الشيوخ والنواب. فالأكثرية، حتى في صفوف الجمهوريين، لا تسمح بأن تكون الصفقة كما يريد ترامب. هناك أصوات يهودية في الولايات المتحدة الاميركية تنتقد المخطط الترامبي. الدليل ان العدد الاكبر من اليهود اقترع لصالح الديمقراطيين لا الترامبيين. ولم تستطع كل جهود صهر ترامب جاريد كونشنير ان تجيّش اليهود لصالح حلفاء ترامب في صناديق الاقتراع.

رغم كل ذلك، لا يتوقع احد ان يحصل اي تراجع عربي بالاندفاعة القائمة نحو تل ابيب. صارت العواصم العربية المعنية تنتقد تصرفات "حماس" وكل زملائها في حركات المقاومة، وتعطي الحق للإسرائيليين بكل ما يقومون به من اعتداءات. بالنسبة اليهم، التسوية المستندة الى علاقات سياسية وتجارية، وتصبّ في صالح تأليف حلف ضد إيران، هي اهم من ​القضية الفلسطينية​ التي صارت في حساباتهم نسياً منسياً.

لذلك، الحرب ستستمر، مع رسم افق سياسي لإنهائها، ومخطط التسوية سيستمر مع وضع صيغ الصفقة. لكن كل ما يدور بين الاسرائيليين والفلسطينيين سيكون رهينة في عملية البحث عن نظام اقليمي جديد على انقاض سايكس-بيكو. ولا يزال المخاض مستمرا.