يضعنا ​الإنجيل​ أمام جماعتين، سماوية وأرضية، تتكوّنان من تتألّف شخصيّات لَعِبت دوراً أساسيّاً في حدث التجسّد: مريم، يوسف، الملائكة، الرعاة، المجوس، هيرودوس...، وهؤلاء كلّهم شاهدوا ميلاد الربّ وعبّروا عن فرحهم بهذا الحدث العجيب، إلاّ أن منهم مَن أمرَ بقتل الصبّي!

سيكون موضوع تأملنا في ​تساعية الميلاد​ الحاضرة، بدورِ كلٍّ من هذه الشخصيّات المذكورة في حدث ميلاد الربّ، متوّقفين مذهولين معها بهذا الحدث العجيب الذي ملىء الزّمان والمكان، وفتح أبواب السماء على أمام الطفل الإلهي لينزل إلى عالمنا وينقٌلنا من الظلمة إلى النّور.

لأنّه قد وُلِدَ لنا وَلدٌ اُعطيَ لنا ابنٌ(أش95)

مقدّمة

"ويَنظُرُ إلى الأرضِ فإِذا الشِّدَّةُ والظُّلمَةُ وليلُ الضّيقِ ودَيجورُ الإنحلال"(أش822)، بهذه الكلمات ينتهي الفصل الثامن من سفر آشعيا النبي: ضيقٌ وظُلمةٌ وليلٌ شديد السّواد يسود الأرض، وشعبٌ لا يُبصر.

"ولَكن"!

أخواتي إخوتي، نأتي إلى الآتي في يوم ميلاده في العالم وفي كلِّ إنسان، لكي نندهش من هذا الحدث العظيم الذي أربَك عقل الإنسان: الله صار بشراً! أخذ لحماً ودماً من مريم الإنسان، لكي نَصير نحنُ آلهة مُعطياً إيّانا لحمه ودمه الإلهيين.

في هذه المناسبة الرّفيعة القداسة والسّامية، نحمل إليكم محبة راعي الإبرشية الذي أرسل كتاب معايدة إلى الرّعية عبّر من خلاله عن أُمنياته ​الطيبة​ لكم وعن محبّته الخالصِة لكلِّ فردٍ منكم. ونحمل إليكم أيضاً ومحبتنا، سألين الطفل الإلهيّ أن يُشرِق بنوره في قلوبنا فنصير له آنيةً مقدسة لا عيب فيها ولا وسخ، وأن يَعُمّ سلامه على ​لبنان​ والعالم بأسره، وأن يَنعم إخوتنا وأخواتنا المعُذّبين في الأرض بالفَرَج والهَناء.

ولكن!

"ولكن"!، بهذه العبارة يُفتتح الفصل التاسع من سفر آشعيا النبيّ، وهو يُنبىءُ بانبلاج صُبحٍ جديد يَحملُ نوراً سماوياً يَقضي على ظُلمات الموت والقهر والضّيق، ويُبَشّرُ بيومٍ جديد ملؤه الفرح:ف"الشعبُ السّالِكُ في الظلمة أبصرَ نوراً عظيماً"(أش91)؛ "لأنّ نور الربّ أشرق حولهم"(لو29).

هو نورُ الربّ إذاً، مَن سيُسَبّبُ "فرحاً عظيماً يكونُ للشعب كُلّه"(لو210)،على ما قاله الملائكة للرعاة في ​بيت لحم​. يُشبِه هذا الفرح فرح المزارعين في يوم الحصاد(أش92)، حيثُ، وبعد طول انتظار وأشهُر من المعاناةِ والتّعبِ والترَقُّب، تفيضُ الغلال ويفيضُ معها الخير، وبالخير الفرح.

انتظر الناس الآتي. صَلّوا سائلين السّماء أن تُمطرَ الصدّيق، وبعد طول انتظار وصبرٍ مقدّس أتى، فأبصره المائتون، وفرحوا.

لماذا الفرح؟

لِماذا الفرح؟ لأنَّ الله صار إنساناً، "وسكن بيننا"(يو114). الذي كان مع الله منذ البدء(يو11)، المتسامي والمتعالي والبعيد عن إدراك البشر"وُلِدَ لنا ولدٌ، أُعطيَ لنا ابنٌ"(اش25). شابهنا في حالتنا الإنسانية، دون أن يُشابهنا في وضعنا السّاقط بفعل الخطيئة، لأنَّ الخاطىء لا يستطيع أن يُخلّصَ الخطأة بل البّار وحده. واسمُه "عجيبٌ"، يدلُّ على ما ومَن هو، وعلى عمله: إسمه "يسوع" ومعنى اسمه "الله يُخلّص"؛ هو الله الآتي إلينا لكي يُحرّرنا من خطايانا ويُعيدَ إلينا بهاء صورتنا الأولى التي فقدناه بفعل شرورنا: باسمه نتبارك ونتقدّس، وباسمه نتحرّر من الشّرور، وباسمه يشفى مرضانا، وباسمه تُجرى العجائب، وباسمه ننتصر على أعدائنا، وباسمه نترجّى القيامة و​الحياة​ ​الجديدة​ في الدهر الآتي.

نحن في ضيقٍ، ولكن!

أيّها الأحباء، نحن في ضيق! العالم في ضيق، وظلال الموت تُظلّله من كلّ ناحية. ضيق سياسيّ يمنع في إيجادٍ حلولٍ سياسيّة لأزمات وطننا الحبيب. ضيقٌ اقتصادي يضغط على المؤسّسات ويقودها إلى الإفلاس ويُساهم في انتشار ​البطالة​. ضيق اجتماعي يتمثّل في اتساع رقعة ​الفقر​ ونسبة الفقراء العاجزين عن تلبية حاجاتهم الأساسيّة. ضيق روحي يتمثّلُ في الإبتعاد عن الله والإنغماس في الخطيئة وانتشار الرذيلة وعقليّة اللامبالاة والأنانيّة وغيرها الكثير من الضّيقات التي تجعلنا في حالة اضطراب عاجزين عن تلَمُّس طريقنا.

"ولكن"!، ما قيل قبلاً للسائرين في الظلمة يقوله لنا الربّ الآن: ستبصرون نوراً عظيماً إن فتحتم أعيُنكم على هذا النور ووثقتُم به. هو نورٌ ساكنٌ بيننا وهو فينا. يتفجّرُ من الكلمة السّاكنة بيننا؛ من الإنجيل ومن الإفخارستيّا حيثُ يصيرُ هو فينا ونحنُ فيه، يُشِعُّ على العالم بالنعمة.

حلَّ الله بتجسّده في كلِّ نفسٍ بشرية لكي يُرَمّم ما أفسدته الخطيئة، فلنُسرِع إلى مُلاقاته كما فعل كُلٌّ من الرّعاة والمجوس، وآباؤنا وأجدادنا، ولنحمل إليه هدايانا الثمينة، خطايانا الشخصية، نُقدّمها له، فننال منه المغفرة والمعونة لضعفنا، وننتصر وينتصر فينا على كُلّ ظُلمة فيُشرق نوره من جديد فينا وفي عالمنا. آمين.

ولد ​المسيح​... هللويا

*كاتب ايقونة الميلاد رئيس محترف الايقونة المخلّصي الأب نداء ابراهيم