شكل القرار الرئاسي الأميركي بالانسحاب من سورية صدمة في المشهد الإقليمي و الدولي قاد البعض إلى الحيرة و البعض الأخر إلى الجمود في حين راه المعسكر المدافع عن سورية قرارا منطقيا املته مجريات الأحداث و نتائج المواجهة الجارية على الأرض السورية ، و مهما يكن من امر فان هذا القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ شكل محطة تحول مفصلية سترسم و تضبط على إيقاعها الكثير من المواقف و السلوكيات و الاستراتيجيات المعتمدة او التي ستتعمد من قبل الأطراف المشاركين في الصراع على الأرض السورية عدوانا او دفاعا ، فما خلفية القرار و ما هي تداعياته و كيف ستتجه مسارات الصراع على الأرض السورية على ضوئه ؟

في البدء و من اجل استيعاب القرار بالشكل الذي يقتضيه الحال نرى ان من الضرورة التوقف عند الدوافع و الخلفية التي املت اتخاذ الرئيس الأميركي هذا القرار في ظل رفض من الدولة العميقة له ، و هنا يمكن ان نتوقف عند أربعة أمور في هذا المجال أولها حاجة شخصية يريد عبرها ترامب ان يثبت بانه الرئيس و هو الرئيس القوي صاحب القرار و الباقي من وزراء او اقل رتبة منهم من الموظفين هم معاونين له لا يملكون سلطة القرار بل صلاحيات أبداء الراي فقط ويبقى القرار للرئيس و عليهم التنفيذ فمن ارتضى يسير بالقرار و من رفض يستقيل كما حصل مع وزير الدفاع ماتيس الذي دفعه قرار الرئيس للاستقالة فورا .

أما الثاني فهو متصل أيضا بشخصية ترامب و حرصه على تنفيذ ما وعد به في حملته الانتخابية ليثبت مصداقية تجعله مختلفا عما سبقه من الرؤساء الذين تبقى وعودهم أوهاما لا تتحقق و لا تنفذ ، و بالتالي نحن لا نرى القرار هذا مفاجئا حيث ان ترامب وعد بالانسحاب اثناء الحملة الانتخابية ثم قرر الانسحاب في الربع الأول من هذا العام و اجل الانسحاب بعد ان تلقى الأموال الخليجية حيث طالبته ​السعودية​ و الأمارات بالبقاء مقابل دقع التكاليف حتى تمنع انتصار الرئيس الأسد و الأن و قد استهلكت الأموال و لم يعد بالإمكان التمديد صدر قرار الانسحاب دون مراعاة مصالح احد ألا المصالح الأميركية كما يراها ترامب .

أما الثالث فهو مرتبط بالعلاقة الأميركية التركية ، و لهذا جاء قرار الانسحاب اثر مكالمة طويلة بين ترامب و اردغان انتهت بعبارة اطلقها ترامب قائلا لاردغان " سورية لك و أنا سأنسحب " و جوهر الموضوع ان عضوي ​الحلف الأطلسي​ – ​أميركا​ و ​تركيا​ – و صاحبي اكبر جيشين في الحلف ، وجدا نفسيهما في حالة تناقض في الميدان السوري بسبب القضية الكردية ففي حين ترى أميركا ان دعم الأكراد لإقامة الكيان الانفصالي الذي يقود إلى تفتيت سورية هو جوهر ما تبقى لها لتعمل به ، ترى تركيا ان أي كيان انفصالي كردي يهدد امنها القومي و لذا أعلنت عن قرارها بغزو شمالي شرقي الفرات للإجهاز على من تسميهم الإرهابيين الأكراد الذين يقودهم ​حزب العمال الكردستاني​ و ينظمهم تحت اسم "قسد ". فكان الحل أميركيا بالخروج وترك الأكراد للقرار التركي وحماية التحالف العضوي والبنيوي للطرفين التركي والأميركي في “الناتو".

أما العنصر الرابع فهو برأينا العنصر الأساس الذي يظلل مجمل المشهد وهو الإخفاق الاستراتيجي الكبير الذي وقع فيه العدوان على سورية والمنطقة والذي بدأ يتشكل تراكميا منذ أواخر العام 2015 وكانت مرحلته الأولى في حلب في العام 2016 التي تتالت بعدها انتصارات سورية وحلفائها إلى الحد الذي افهم معسكر العدوان بان عليه الإقرار بالهزيمة وان عليه ان يتوقف ويسعى للخروج من الميدان، وعلى ضوء ذلك كان وعد ترامب ثم جاء قراره اليوم ليكون التأكيد على انتصار سورية وهزيمة من اعتدى عليها.

بدافع مما ذكر اتخذ ترامب قراره، وفتح المجال أمام أسئلة كثيرة تطرح منها أولا هل ينفذ القرار فعلا؟ وكيف ستكون التطورات ومواقف الأطراف في المواجهة على الأرض السورية إذا خرجت أميركا فما هي سيناريوهات المواجهة وماهي النتائج المحتملة او الممكنة الحدوث؟

بالنسبة للتنفيذ لا شك بان النزاع الداخلي في أميركا قائم على أشده بين الترامبية والدولة العميقة، الترامبية ذات النفس التجاري الواقعي المطور، والدولة العميقة التي تبنى مواقفها على أبعاد استراتيجية بعيدة قد يكون فيها ثغرات وصعوبات آنية ولكن يتصور أصحابها ان الربح أكيد في الخاتمة ربح من شانه ان يضع أميركا على راس العالم وقيادته. ونظرا لهذا الصراع فان الدولة العميقة ترفض قرار الانسحاب لما له من تأثير سلبي على استراتيجية أميركا في الشرق الأوسط والعالم ولما له أيضا من ضرر يلحق بالحلفاء خاصة ​إسرائيل​ ودول الخليج أضرارا تفوق برأيهم ما كان يمكن ان يحدثه ​الاتفاق النووي​ مع ​إيران​ لكل ذلك فان مكونات الدولة العميقة خاصة في الخارجية والدفاع والأمن القومي قد يستفيدون من مهلة ال 100 المحددة حدا اقصى لاكتمال الانسحاب قد يستفيدون منها لاختلاق ذريعة تجبر ترامب على تجميد قراره وتمديد البقاء في سورية.

أما عن السيناريوهات في حال التنفيذ فإننا نرى إنها ستكون واحدا مما يلي:

السناريو الأول: تعقلن الأكراد وتسليمهم بان مشروعهم الانفصالي سقط وطموحهم بحكم ذاتي موسع يخفي انفصالا مقنعا ضمن ما يسمى فيدرالية هو طموح عقيم، وهنا يكون من المنطقي ان يقوم الأكراد بوضع أنفسهم ​الحكومة السورية​ باعتبارهم جزءا لا يتجرأ من الدولة السورية الواحدة التي تقوم قواها المسلحة بالدفاع عنها. فاذا تم ذلك فان الذريعة التركية الظاهرة او المعلنة بان المشروع الكردي الانفصالي هو الذي يدفع تركيا للغزو ، تكون هذه الذريعة قد سحبت و لا يكون هناك أي سبب لتنفيذ تركيا تهديدها بالاجتياح .و سيكون في هذه الحالة على الدولة السورية و بالتنسيق مع الأكراد " العائدين للدولة " ممارسة سلطاتها و أرسال ما يلزم من قوى مسلحة لمعالجة امر بضعة الألاف من إرهابيي داعش المتواجدين شرقي الفرات و التوجه أيضا إلى التنف و تفكيك مخيم الركبان و اجتثاث من تبقى من مسلحي "مغاوير الثورة " الذين أعدتهم أميركا خدمة لاستراتيجيتها المنهارة .

السناريو الثاني: استمرار العمى الاستراتيجي الكردي مسيطرا على قادة الأكراد الذين يحركهم حزب العمال الكردستاني، والامتناع عن وضع أنفسهم بتصرف الحكومة السورية، في هذه الحالة ستكون منطقة شرق الفرات عرضة لعمليتين عسكريتين واحدة للتحرير واستعادة الأرض من الإرهاب وينفذها الجيش العربي السوري مع الحلفاء، وواحدة عدوانية تركية من الشمال تسعى لاحتلال ارض سورية بذريعة الدفاع عن الأمن القومي التركي في مواجهة الأكراد. مع ما يحتمل من مواجهة بين ​الجيش التركي​ الغازي والقوات السورية العاملة على التحرير وهو احتمال ضعيف.

السناريو الثالث: تحرك داعش في عمليات انتقامية متعددة الاتجاهات والأهداف والقيام بعمليات استباقية تمنع او تؤخر الإجهاز عليها من الجيش العربي السوري في ظل انكفاء "قسد" واهتمامه بأمن جماعاته، وهنا يجب ان نتذكر بان ترامب أوعز لقواته بالتوقف عن قصف داعش ما يعني إشارة لداعش بالعمل من غير مخاطر يشكلها طيران التحالف وهنا سيكون على الجيش العربي السوري مواجهة ثلاثة أطراف هي داعش وقسد وتركيا هذا ان لم تمتنع تركيا عن تنفيذ تهديدها وان لم تتعقلن قسد.

أما ما يقال عن ان الانسحاب الأميركي سيكون مقدمة لعدوان على إيران، وتهيئة لتنفيذ ترامب وعده لإسرائيل بتفكيك ​حزب الله​، فإننا ورغم الشهوة الأميركية والإسرائيلية في تحقيق ذلك فإننا لا نرى في المنظور من المشهد والمتوفر من المعطيات ما يجعل هذا الأمر احتمالا جديا قابلا للتحقيق والنقاش.

أما عن الدلالات والتداعيات فإننا نستطيع القول ان قرار الانسحاب هذا يشكل اعترافا أميركيا بهزيمة المشروع العدواني ضد سورية وقناعة بعقم الاستمرار فيه مع تصور بان الخروج من المركب الغارق يشكل الحل الأمثل. ما سيستتبع البدء بتفكيك ​التحالف الدولي​ الذي زعمت أميركا انه ركب لمحاربة داعش. وتجميد العملية العسكرية التركية التي تستهدف شرقي الفرات لمدة 100 يوم على الأقل وهي المهلة التي حددها ترامب لتنفيذ قراره مع ترجيح الغائها كليا في حال تعقلن الأكراد ووضعوا أنفسهم بتصرف الدولة السورية التي ستعيد برأينا النظر. بجدول أوليات الجيش العربي السوري لتحرير ما تبقى من ارض سورية وتقدم شرقي الفرات على منطقة إدلب.

أما على الصعيد السياسي والاستراتيجي فقد يكون هذا القرار بمثابة الإجهاز على مسار جنيف للحل السياسي وتراجع الدور الأميركي والأوربي والخليجي في الحل، وتقدم مسار استنة وتقدم القرار السوري الوطني المدعوم من ​روسيا​ وإيران ما ستراه إسرائيل خسارة استراتيجية كبرى لها خاصة وان سورية ستستعيد كامل موقعها العربي والإقليمي والدولي -وقد بدأت – وتعزز معادلة الردع التي ارسيت في العام 2018.