تراجع دويّ القصف والمعارك في ​سوريا​ إلى مُستويات مُنخفضة جدًا تُوحي بأنّ الحرب إنتهت عمليًا... لكنّ الإنتهاء الوشيك للأعمال العسكريّة لا يعني أنّ طريق الحلّ السياسي مفروش بالوُرود. فالملفّات الشائكة لا تزال عالقة حتى تاريخه، وهي مدار أخذ وردّ إقليمي ودَولي كبير، في ظلّ تضارب هائل على مُستوى مصالح كل طرف. ومن المُلاحظ أنّ الكثير من الدول العربيّة والغربيّة صارت أكثر إستعدادًا للعودة سياسيًا إلى سوريا، لكنّ هذه العودة مُشترطة، وهي لن تتم إلا في مُقابل أثمان سياسيّة وإقتصادية مُرتفعة. فما هي آخر المعلومات بهذا الشأن، وهل ​لبنان​ الرسمي سيعود مجانًا إلى سوريا، أم أنّ عودته ستكون في مُقابل بعض المكاسب أيضًا؟.

بحسب المعلومات المُتوفّرة إنّ ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة التي بدأت بمُغادرة مناطق وُجودها في سوريا، والتي تتركّز شرق ​نهر الفرات​، لا تريد أن تُغادر المنطقة خالية الوفاض، وهي تُساوم في هذا المجال مع أكثر من طرف، من ​تركيا​ إلى ​روسيا​. والمنطقة السُوريّة المذكورة والتي ينتشر فيها أكثر من خمسين ألف مُقاتل عربي وكردي، وتضم قاعدة التنف و​مدينة منبج​ المُهمّة من الناحية الإستراتيجيّة، كونها تحضن طريقًا بريًا يمتد إلى داخل ​العراق​ ومنه إلى ​إيران​ من جهة، ونحو لبنان من جهة أخرى. وعلى خط مُواز، تبرز مُحافظة إدلب التي تُعتبر المعقل الأخير لأغلبيّة الجماعات المُسلّحة التي قاتلت النظام السُوري على مدى سنوات. وهذه المنطقة هي أيضًا محط مُساومة حاليًّا بين تركيا وروسيا اللتين كانتا توصّلتا إلى إتفاق لوقف النار في أيلول من العام الماضي.

وعلى الرغم من أنّ الولايات المُتحدة الأميركيّة ليست في وضع قوي حاليًا في منطقة ​الشرق الأوسط​، بسبب خلافاتها مع تركيا بشأن الملفّ الكُردي، وعدم رغبتها بالتواجد عسكريًا على الأرض في سوريا، فهي ستُحاول الإستفادة سياسيًا قدر المُستطاع قبل إعادة العلاقات مع النظام السُوري، وضُغوطها المُستمرّة على إيران وسعيها الدؤوب لتشكيل جبهة واسعة ضُدّ ​طهران​، هي خير دليل على ذلك. والأمر نفسه ينطبق على الدول الأوروبيّة، التي وعلى الرغم من أنّها غارقة في مشاكلها الداخليّة، من تظاهرات "السترات الصفراء" وُصولاً إلى إرتدادات خروج ​بريطانيا​ من ​الإتحاد الأوروبي​، فهي ترفض خسارة الورقة السُوريّة من دون ضمانات بشأن مصير ​اللاجئين​ السوريّين، ومن دون مكاسب إقتصاديّة لشركاتها أيضًا.

وهذه الرغبة بالمُساومة لا تتأتى من قُوّة ​أميركا​ أو ​أوروبا​ في سوريا، بل لأنّ هذه الأخيرة لديها مُشكلة تمويل لإعادة إعمار المناطق المُهدّمة والبنى التحتيّة، حيث تُقدّر الكلفة بما بين 300 إلى 400 مليار ​دولار​ أميركي، علمًا أنّ إعطاء الأولويّة لشركات روسيّة أو إيرانيّة أو لأي شركة تحمل أي جنسيّة من جنسيّات الدول التي وقفت إلى جانب النظام السُوري خلال الحرب، لا يُؤمّن الأموال الهائلة المَطلوبة، ما يعني أنّ دولاً عربيّة وغربيّة عدّة ستدخل على خط إعادة الإعمار، من موقع المَصلحة الإقتصاديّة المُتبادلة. وهذا الدُخول لن يكون مجانيًا، حيث لا تزال الدُول العربيّة والخليجيّة، وكذلك العديد من الدول الغربيّة، تُساوم على العودة السياسيّة والدبلوماسيّة إلى سوريا، عبر المُطالبة بالتوصّل إلى تسوية سياسيّة مُنصفة لمُختلف الأطراف، قبل الحديث عن عودة العلاقات إلى طبيعتها مع سوريا. وخلال الأيّام الماضية، صدر موقف لافت عن وزير الخارجيّة القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، جاء فيه "انّ الأسباب التي أدّت إلى تعليق مُشاركة سوريا في الجامعة العربيّة ما زالت قائمة"... و"لا نرى أي عامل مُشجّع على عودة سوريا، ولا يوجد حتى الآن حلّ سياسي"، بشكل يختصر تريّث العديد من الدول من مسألة التطبيع مع سوريا، لبيع هذه الورقة في سوق المصالح السياسيّة والإقتصادية، وذلك عندما يحين وقت الحلّ الشامل والنهائي للأزمة السُوريّة.

والمُفارقة أنّ بعض القادة في لبنان يُمارسون حاليًا مُختلف أنواع الضغوط السياسيّة والإعلاميّة وحتى الميدانيّة، للدفع نحو إعادة تطبيع علاقات لبنان الرسمي مع النظام السُوري، من دون أي ثمن في المُقابل، وهم بذلك يُخسّرون لبنان عن قصد أو عن غير قصد، ورقة مُهمّة بيده، كون الحاجة اللبنانيّة لعُبور ​شاحنات​ الترانزيت وشاحنات التصدير المعابر والأراضي السُوريّة، يُقابلها حاجات سوريّة مُتعدّدة من لبنان، تشمل الحاجة إلى المرافئ اللبنانيّة، والحاجة إلى الخُبرات الهندسيّة والمعماريّة اللبنانيّة، والحاجة إلى الإمداد اللوجستي من لبنان لإعمار الأجزاء السوريّة البعيدة عن الحدود التركيّة أو العراقيّة أو الأردنيّة، والأهمّ الحاجة إلى الغطاء السياسي الذي يُمكن أن يؤمّنه لبنان لإعادة تلميع صُورة النظام السُوري عربيًا ودوليًا.

وفي الخلاصة، المُستغرب أنّ لبنان الذي لم ينس جريمة نظام الدكتاتور الليبي الراحل مُعمّر القذافي بحقّ الإمام ​موسى الصدر​، وتعامل بحدّة كبيرة مع النظام الليبي الجديد الذي أطاح بالقذافي وقتله وسجن أركان نظامه، تناسى كل الإرتكابات السوريّة بحقّ جزء كبير من اللبنانيّين في أكثر من مرحلة خلال العُقود الماضية، ويرغب بفتح صفحة جديدة مع سوريا وكأنّ شيئًا لم يكن، قبل الحُصول على أي نوع من الضمانات الأمنيّة أو السياسيّة، أو أي توضيح بشأن مصير الأسرى اللبنانيّين في السُجون السُوريّة، أو حتى من دون أي وعود عمل إقتصادية وتجاريّة مُستقبليّة!.