ما كان ​البابا فرنسيس​ يزور دارَ الإسلام أمس، بل هو الإسلامُ يزور دارَ المسيحيّةِ بعد نحوِ إلفٍ وثلاثِ مائةِ سنةٍ، من دون سَيْفَي طارق بن زياد وموسى بن نُصَير هذه المرّة (فاتِحَي الأندلس سنةَ 711). فما إن حلَّ البابا فرنسيس على ​أبو ظبي​ حتّى دَخلَ الإسلامُ إلى ​أوروبا​ والعالم: شوارعُ دولةِ ​الإمارات​ العربيّةِ ازدانَت بأعلامِ ​الفاتيكان​، وشوارعُ المدنِ المسيحيّةِ في العالم تَزخْرفت، وإنْ لمْ نَرَها، بآياتِ القرآنِ وسُوَرِه أيضًا. حَصَل تبادلٌ وِجدانيٌّ شبيهٌ بنعمة.

زيارةُ البابا فرنسيس، أعزلَ، إلى ​أبوظبي​ قَضَت على «داعش» و«القاعدة» و«النُصرة» وسائرِ المسمَّياتِ التكفيريّةِ والأصوليّةِ، أكثرَ مما قضى عليها التحالفُ الدوليُّ ضِدَّ الإرهاب، وبعضُ دولِه ساهَم في إنشائِها. بـمُجرّدِ أنْ وَطِئَ الرجلُ الأبيضُ أرضَ شبهِ الجزيرة، وقد أصبحَت دارَ الإسلامِ منذ القرنِ السابع، بَانَ الإسلامُ الأبيضُ، النقيُّ، الصافي، يُجسِّد آيةَ القرآن: «آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنزِلَ إِليه مِن ربِّهِ وَالْمؤمِنُونَ كلٌّ آمَنَ باللَّه وملائكتِه وكتُبهِ ورسُلِه لا نُفرِّقُ بين أَحدٍ مِن رسُلِهِ وَقالوا سَمِعنا وَأَطَعْنا غُفرانَك ربَّنا وَإليكَ المصير» (من سورةِ البقَرة).

من سماحةِ «أبو ظبي»، التي سَبقَت سواها، سمَحَ البابا للعالمِ المسيحيِّ أن يَكتشِفَ إسلامًا آخرَ، إسلامَ النبيِّ محمد وآلِه، إسلامَ الرسالة، إسلامَ الشيخ زايد آل نهيان وأبنائه، إسلامَ شيخ ​الأزهر​ أحمد الطيّب، وإسلامَ الرهانِ اللبناني. لا نريدُ لهذا الإسلامِ الأصيلِ أن يغادرَ دارَ المسيحيّةِ، ولا أن يغادرَ البابا فرنسيس دارَ الإسلام. لِنحيَ معًا ولا نَفترق، لنتَبادلِ الآياتِ والتعاليمَ، لنصنَعِ المُعجزات، لنواجِهْ معًا هيرودس الجديد، ولنشْهد أنَّ الدينَ ضميرُ الشعوب.

أمس، كان التاريخُ الإسلاميُّ حاضرًا في استقبالِ البابا فرنسيس. إلى أبو ظبي حَضر الخلفاءُ الراشدون والأمويّون والعباسيّون وصلاحُ الدين الأيّوبي. حَضر القِسُّ وَرَقة بن نوفل وراهبُ بُحيْرى وشعراءُ البَلاطِ المسيحيّون. وحضرت القبائلُ العربيّةُ المسيحيّةُ التي انضَمَّت إلى الدولةِ الإسلاميّة وشَكّلت عديدَ جيشِها. كلُّها أتَت: قبائلُ لَخْم وتَنّوخ وغسّان وكَلْب وكَعْب، قبائلُ بَكْر وطَيْ وجُذام وعُباد وحارِث ومازن، قبائلُ يَحيا وأياد وصالح ومُوصل ونِزار ووائل، قبائلُ شيْبان ومِدلج وجُهينة وربيعة وكُلثوم والتَميم، قبائلُ النَمر وعَنْز والشُخيْص وعُمران وعائش وعدنان، إلخ... وحَضَرت قبيلةُ «تَغلِب» التي نُسِب إلى عُمر بن الخطاب قولُه فيها: «لو تأخَّر الإسلامُ سنةً لأكَلت تَغلِبُ العربَ».

وبعد، من يَجرؤُ أن يؤكّدَ أصلَه الدينيّ؟ ومن يَجزِمُ للمسلمِ أنَّ أصلَه مسلمٌ وللمسيحيِّ الشرقيِّ أنَّ أصلَه مسيحيٌّ؟ ومن يتجاسَرُ ويَسفُك نُقطةَ دمٍ دفاعًا عن أصلٍ فيما الأصلُ واحدٌ ولو اختلفت الحضارات والثقافات؟ أتَقتُل الذاتُ ذاتَها؟ وبعد، أيُّ دولةٍ إسلاميّةٍ أو مسيحيّةٍ يَحِقُّ لها التمييزُ بين مواطنيها دينيًّا ومدنيًّا؟ فلتكن الحضارةُ أقوى من العصبيّةِ العبثيّة، ووِحدةُ التاريخِ أقوى من صراعِ الحاضرِ التافه. ألم نَشعُر كم صغيرةٌ وحقيرةٌ حروبُنا وخلافاتُنا أمامَ «لحظةِ أبو ظبي»؟

أبو ظبي بعد الزيارةِ غيرُها قبلَها. كانت عاصمةَ دولةٍ فصارت عاصمةَ ديانتين: المسيحيّةُ والإسلام. ما كان الإسلامُ يومًا في أبو ظبي أقوى مما هو بعد زيارةِ البابا فرنسيس. فمبادرةُ آلُ نهيان علامةُ ثقةٍ بالذاتِ، بالدولةِ، بالإسلامِ وبالمسيحيّة. قَدَّم آلُ نهيان بلادَهم للمسيح، «عِيساهُم»، ثلاثةَ أيّامٍ، فَعايَن المسيحيّون الإسلامَ دينَ الانفتاحِ وقبولِ الآخَر. مِن مصر، حيث افتُتِحت منذ أيامٍ أكبرُ كاتدرائيةٍ قِبطيّةٍ، إلى دولةِ الإماراتِ العربية حيث نَزَل البابا فرنسيس، يولد إسلامٌ جديدٍ. والجديدُ إسلاميًّا، أنَّ مشايخَ آل نهيان والراشد، أبناءَ شبهِ الجزيرةِ العربيّةِ وَلّوا شيخَ الأزهر، الآتي من بلادِ النيل، مرجِعيّةَ الإسلام الأساسيّة. إنّه تحوّلٌ مِحوريٌّ في الحالةِ الإسلاميّة وفي العلاقات مع السعوديّة حيث ملِكُها «خادمُ الحرمَين الشريفين».

هناك وعيٌ إسلاميٌّ صادقٌ لضرورةِ إحداثِ تغييرٍ فعليٍّ في الإسلامِ. وهناك اعترافٌ إسلاميٌّ نبيلٌ بأنَّ جماعاتٍ متطرّفةً خَطفَت الإسلامَ منذ الثمانينات وأساءَت معاملتَه وصادرت ضميرَه وشوّهَت صورتَه البهيّة وجعلتْه مِتراسًا عَدائيًّا ضِدَّ الأديانِ الأخرى، بل ضِدَّ المسلمين أنفسِهم. وأفضلُ من عَبّر عن اليقظةِ الإسلاميّةِ الجديدةِ هو الإمامُ الأكبر أحمد الطيّب في «وثيقة الأزهر» (19 حزيران 2011). وتلتها مبادرة ​الملك عبدالله​ بن عبدالعزيز بإنشاء مركز الحوار بين الأديان في ​فيينا​ (27 تشرين الثاني 2012). وأعَقبتْهما مبادراتُ الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي تجاه ​الأقباط​. وها آلُ نهيان يتوّجون اليقظة باستضافةِ البابا فرنسيس ورعايتِهم إقامةَ قُدّاسٍ جماهيريٍّ في مدينةِ الشيخ زايد.

يبقى أن تترجم الدول الإسلامية هذا الانفتاح العظيم على ​المسيحية​ بتشريعات تُثبِّتُ الاعترافَ بالآخر، فيصبحُ كلُّ مواطنيها متساوين بالحقوقِ والواجبات. فالمساواةُ هي مرآةُ المحبّة.