عرَضنا في المَقالتَين السَّابِقتين لملفِّ الفَساد في الشُّؤون الشَّخصيَّة المُسْتشري في بعض المراجع الدِّينيَّة، الَّتي يَسْعى القيِّمون فيه إِلى الحدِّ مِنْه...

وفي هذا الإِطار يَأْتي إِنشاء مَحْكمة "الرُّوتا الرُّومانيَّة"، وهي "محكمةٌ قضائيَّةٌ، ومحكمةُ الاسْتِئناف الأَعلى لكلِّ مَحاكم الكنيسة الكاثوليكيَّة"، والَّتي أُنشِئَت لِتَكون "عُنْصرًا مُوحِّدًا للعدالة في الكنيسة، من خلال أَحكامها والمساهمات القانونيَّة الَّتي تؤدِّيها إلى سائر المحاكم الرُّوحيَّة في ​العالم​".

ولعلَّ الهَدف الأَوَّل للمَحاكم الرُّوحيَّة هو النَّظر في الخِلافات الزَّوجيَّة الَّتي تَعْصفُ بالمودَّة، وتُلْقي بالحُبِّ والتَّفاهم والألفة خارج المنزِل، مُسْتبدِلةً بها التَّوتُّر والعصبيَّة والعِناد، وتتحوَّل المُشكلة إِلى كُرَة ثلجٍ تَتضاعف سريعًا بَعْد تحوُّلها صراعًا تَصْعُب السَّيْطرة عَلَيْه، لتكون أَرْوقة المَحاكم بَديلاً عن التَّفاهمات والحُلول العائليَّة ما يَنْعكس سلبًا على الأُسْرة بأَكْملها، وأَحْيانًا على أُسْرتَي الزَّوْجَين أَيْضًا...

شهادة طليقة

وتَصِف السَّيِّدة (هـ. م.) ما تَراه "فسادًا" عاشَتْه في تَجْربتها مع المَحْكمة الشَّرعيَّة في ​بيروت​، بعدما طلَّقها زوجُها (أ. طـ.) "طَلْقة على طَلْقة، أَرْبع طَلاقاتٍ" من دون علمها، ومكثَت معه خَمْس سَنوات، خلافًا للشَّرع، لأنَّ شقيق طليقها هو (الشَّيخ و. ط.).

وأَضافَت: "للأَسف فإِنَّ حُقوق المَرْأة في المَحاكم (الرُّوحيَّة) مَهْدورة كُليًّا. فالسَّيِّدة تَدْخُل إِلى المَحْكمة، لِتَجد قاضِيًا يَسْتمع إِلى موضوعٍ لا يَعْني له البتَّة. كما وتُؤَدِّي العلاقات الشَّخْصيَّة دورًا مهمًّا، فمن يَنْسج علاقاتٍ شَخْصيَّةً يَكْسب!. كما ولا يُؤْخَذ بالشَّرْع الإِسْلاميِّ المَعْمول به في القُرْآن الكَريم"...

وتابَعت: "ثَمَّة ظُلْمٌ كَبيرٌ في المَحاكم الرُّوحيَّة وضِمْنًا في مَحْكمَتي أَنا... فَهل يُعْقل أَنْ أَعيش في مَنْزل طَليقي خَمْس سَنَوات وأَنا لا أَعلم أَنَّه طلَّقني أَرْبع طَلاقات؟، وماذا كان جَواب المَحْكمة (الرُّوحيَّة)؟ والَّتي رَدَّت بالقَول: ماذا تُريدين منَّا أَنْ نَفْعل له؟ ليُحاسِبْه اللَّه لا نحن"...

وقالت (هـ.): "لقد رَجَوْت القاضي أَلاَّ يُدوِّن طَلاقي، فما كان مِنْه إِلاَّ أَنْ نَهرَني وطَردَني من مَكْتَبه وصاحَ في وجهي:

- أُخْرُجي... فَأَنْت طالِقٌ وانْتَهى الأَمْر...

- هل هذا ما ينصُّ عليه الدِّين الإِسلاميُّ؟ فلو كانَت أختُك أَو أمُّك... وحصل لها ما حصل لي فهل تَقول لها: اشْتَكي للَّه؟ أَمْ أَنَّ ذلك يَحْدث لأَنْ لا واسطةَ لي في مَحْكَمتكم"؟...

وتابعت: "لقد حاوَلْت شَرْح مَوْقفي للمُفْتي فمُنِعْت من الدُّخول... وحين طالَبْتُ بأَغْراضي الشَّخْصيَّة قيلَ لي: (سَتَسْتَلمينَها...)، فما كانَ مِنِّي إلاَّ أَن اسْتَلَمْتُ أَكْياس نُفايات مُغْلَقة، ومُنِعْتُ من فَتْحها في المَحْكَمة، وقيل لي إِذَّاك: (افْتَحيها في مَنْزلك... والنَّواقِص تُرْسَل إِلْيك لاحِقًا)".

وتَقول (هـ.) إنَّها تفاجَأَتْ بثيابٍ قديمةٍ وباليةٍ فقط، وحين راجَعَتِ القاضي قال لها:

- أَنْت يا ابْنَة... تُريدين مِعْطفًا وفُسْتانًا؟.

وأضافت: "قد مُنِعْت أَيْضًا مِن تَجْهيز العدَّة عَملاً بالشَّرْع الإِسْلاميِّ، وقد خَرَجْتُ من مَنْزلي مِن دون نفقةٍ!... ولاحِقًا خصَّص لي طَليقي 3 آلاف ​دولار​ –هو المُقْتَدر والثَّريّ– فما كان من الشَّيْخ إِلاَّ أَنْ قال له: (هل تريد أَنْ تُخْفِضَ من هذا المبلغ؟)".

وسأَلَت (هـ.): هل هَذا هو دينُنا الإِسلاميّ؟... فحتَّى ملابِسي لم أَحْصل عليها، وزَعموا أَنَّهم اتَّصلوا بِطليقي مرَّات عدَّة ولا جواب"...

فسادٌ ورأيٌ

إنَّه وجهٌ آخَر مِن وجوه الفَساد في مُجْتمعنا... وهو وإِنْ أَصاب المرأَة بالمباشَر، غير أَنَّه يُصيب المُجْتَمع بِأَسْره...

إِلى ذلك فَقَد أَكَّد مُتَخصِّصون في العَلاقات الزَّوْجيَّة والأَحْوال الشَّخْصيَّة أَنْ ثمَّة جَهْلاً لدى الكَثير مِن الأَزْواج بالحُقوق والواجِبات المُتَبادَلة، وتَراخيًا في الالتِزامات المُتَرتِّبة على كلِّ طَرَفٍ تِجاه الآخَر وتجاه الأَبْناء والمُجْتمع، وهذا نابِعٌ مِن ضُعْف الوازِع الدِّيني وقلَّة الوَعي بالمَفْهوم الحَقيقيِّ للزَّواج وبناء الأُسْرَة... وللحديث صِلة.