تشتدُّ الحربُ الكلامية بين روّاد مواقع التواصل الإجتماعي على خلفية خميس السّكارى. ولِمَن لا يعرف، فالخميس الذي نتكلّم عنه، يتوسّط الأسبوع المُخصّص لتذكار الموتى المؤمنين بحسب الطقس السّرياني الإنطاكي، وهو الأسبوع الأخير الذي يسبق أحد المرفع أو أحد مدخل الصّوم الكبير.

من الرّواد مَن أطلق على هذا النهار إسم "خميس الذّكارى"، مُفتياً بعدم جَواز إطلاق صِفة السّكارى عليه، كونه يأتي في الأسبوع المُخصّص لتذكار الموتى المؤمنين، ورغبةً في إبعاد عيب مُعاقرة الخمرة، وإلصاقِ صفة الثّمالة بالمؤمنين ​المسيح​يين. ومنهم مَن ربطه بتقليدٍ شعبي، يعود في أصوله إلى عادة اعتادها ​المسيحيون​ قبل الدّخول في الصّوم الكبير، وتقضي بالتخلّص من كل مُسكرٍ، والسّعي إلى الخمرة الرّوحية التي ستُراق من جسد السيّد المسيح على الصليب. وما بين ما قاله الميّالون إلى "الذّكارى" والميّالون إلى "السّكارى"، حصلَ عراك إلكتروني، شَيطَن وكَفّر فيه الكٌلّ الكُلّ. ولعَمري، لست أدري ما الفائدة من هذا العراك، وكيف من المُمكن أن يعود بالخير على الجماعة المؤمنة!.

ومن السّخرية المُضحِكة المُبكيّة، أننا أصبحنا مُدمنين بشكلٍ مريض على الفواصل والهوامش والقواطع التي لا تبني الإيمان في الجماعة، ولا تأخُذ بعين الإعتبار طبيعة الإيمان الأصليّة. كنت قد كتبت فيما مضى، مُشدّداً على ضرورة الإنتباه على الإيمان من التقاليد الدّنيوية الدّخيلة التي، شأنها شأن المياه الآسنة، تُعَكِّر الصّفاء الرّوحي وتُمَسخِن الإيمان وتُشَيّء المقدّسات وتُوَثِّن العبادة، وتُعطِّلُ برائحتها الكريهة حاسّة الشَّمّ الرّوحية. واليوم أعود مَرّة جديدة لأُذكِر بتلك الحقيقة المُرَّة، ولأُضيف إليها خطراً آخر يتربّص بالإيمان وبالمؤمنين، ويتمثّل في التنظير والمُماحكات والمُهاترات والمُشاحنات "الَّتي لا نَفْعَ مِنْهَا، والـتي تَهْدِمُ السَّامِعِين(2طيم2: 14)، وتُسيء في الوقت نفسه، إلى كرامة المُتحَدِّث والمُتَحَدَّث إليه.

لقد بات الوضع من الخطورة بمكان، أنّنا نكاد نُضيّع البوصلة التي تقودنا باتجاه الحقّ. فلَم نَعُد ندرِ مَن هو النبيّ ومَن هم المُتَنَبَأ إليه! ومَن هو المُعلِّم ومَن هو المُتَعَلِّم! ومَن هو الطبيب، ومَن هو المريض! ومَن هو المُعين، ومَن هو المُعَان! ومَن هو المُدّبِّر، ومَن هو المُدَبَّر! الجميع مُعلّمون وعارفون ومُعالِجون ومُعينون ومُدبّرون!... وهذا ما ينفيه بولس الرسول بقوله :"أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ رُسُل؟ أَلَعَلَّ الجَمِيعَ أَنْبِيَاء؟ أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ مُعَلِّمُون؟ أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ صَانِعُو أَعْمَالٍ قَدِيرَة؟ أَلَعَلَّ لِلجَمِيعِ موَاهِبَ الشِّفَاء؟ أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ يَتَكَلَّمُونَ بِالأَلْسُن؟ أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ يُتَرْجِمُونَ الأَلْسُن؟ (1قور12: 29). كلا، "فكُلُّ وَاحِدٍ يُعْطَى مَوْهِبَةً يَتَجَلَّى الرُّوحُ فيهَا مِنْ أَجْلِ الـخَيْرِ العَام"(1قور12: 7).

لقد بِتنا، في الواقع، مَفتونين بالمماحكات والمُجادلات، لدرَجة أننا أصبحنا أقرب إلى شيطنة وتكفير وإدانة بعضنا البعض، منه إلى المحبّة التي تُقرّبنا من بعضنا البعض. وكلّ ذلِك باسم الإيمان ومحبّة الله! إنّ إيماناً كهذا يفتقر إلى المعرفة الصّحيحة(روم10: 2)، وما يفتقر إلى المعرفة الصحيحة يفتقر إلى الحقيقة، وبالتالي إلى الحُبّ، ولهذا لا بُدَّ له من التوبة المُحلاّة بالتواضع: التوبة تُنقي القلب من السّموم، والتواضع يجعله يقبل بأن يكون تلميذاً أبداً، و"بكُلّ مَا هُوَ حَقّ، وكُلّ مَا هُوَ شَرِيف، وَكُلّ مَا هُوَ بَارّ، وكُلّ مَا هُوَ نَقِيّ، وكُلّ مَا هُوَ مُحَبَّب، وكُلّ مَا هُوَ مَمْدُوح، وكُلّ مَا فِيهِ فَضِيلَة، وكُلّ مَا فيهِ مَدِيح"(فيل4: 8).

خميس السّكارى، أم خميس الذّكارى! لا يهمّني الموضوع البتّة! فجلّ ما يهمّني هو أن أنساق، ومن دون كَلَل، إلى روح الله الذي يدعوني إلى بريّة الرّوح ليُعيد خلقي من جديد، ، ويُجدّد شبابي ويرُدَّ إليَّ بهاء صورتي الأولى.