فجأة، لم يعد هناك حديث في البلد إلا ​الفساد​. وكأن المسؤولين والسياسيين اكتشفوا الفساد الآن وصُدِموا به. أو كأن الفساد الذي أوصل الدولة إلى الخراب هبَطَ علينا من المَجهول. فيما الحقيقة أن معظم القيمين، عاشوا بحُبّ ورضى مع الفساد، ومنهم مَن بنى "أمجادَهُ" عليه.

يقول المسؤولون اليوم: نريد محاربة الفساد فعلاًهذه المرّة، فصدِّقونا. وهم يوحون أنهم نادمون عمّا تمّ ارتكابه بحقّ الدولة من تجاوزات.

عظيم، وقد كان في وِدِّنا أن نصدِّق تَوْبَتهم. والمثل الفرنسي يقول: "خيرٌ لك أن تأتي متأخِّراً من ألاّ تأتي أبداً". ولكن، في الحقيقة، نريد وقائع وأفعالاً.

***

يتحدث بعضهم عن تجاوزات بـ11مليار دولار في حسابات وزارة المال، أيام تولّاها الرئيس ​فؤاد السنيورة​ الذي بات اليوم من دون حصانة نيابية. ويقولون إنهم يمتلكون الوثائق والإثباتات. ويردُّ السنيورة بأنه سبق أن كشف الوقائع والأرقام التي تبرئه تماماً، ويتحدث عن استهدافه سياسياً. ويضيع الناس بين هذا وذاك، فلا يعرفون الخيط الأبيض من الخيط الأسوَد.

ويتحدث آخرون عن هدرٍ بـ17مليار دولار في الكهرباء منذ التسعينات. ويقولون إن جزءاً من هذه المليارات هو نتيجة للخلل في المناقصات ولتجاوزات كثيرة أخرى. وفي المقابل، يدافع المعنيون عن أنفسهم ويبرزون الأدلة التي تثبت براءتهم. والناس هنا ضائعون أيضاً، لا يعرفون مَن هو المسؤول عن هذا الهدر الهائل وعن بقائهم بلا كهرباء، على رغم أن الحرب انتهت منذ ربع قرن.

وقبل يومين، اكتشف الناس أن هناك 15200شخص يقبضون رواتب من الدولة، من دون أن يكون لهم أي تصنيف وظيفي. وقيل إن أكثر من 5آلاف دخلوا مؤسسات الدولة بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب، على رغم أن قانون السلسلة أقرّ وقف التوظيف والتعاقد. ولا أحد مستعدّ للاعتراف بأنه خالف القانون وأدخل موظفين إلى الإدارة!

***

والأمثلة على أبواب الفساد والهدر ومخالفة القوانين لا تُحصى. ولذلك، كل ما نسمعه اليوم حول مكافحة الفساد لا يمكن أن نصدِّقه ما لم تبدأ تسمية الفاسدين بأسمائهم، ويتمّ توقيفهم والتحقيق معهم، وبدء استعادة المال المهدور. عندئذٍ فقط يستعيد الزعماء ثقة الناس. وإلا فليكفّوا عن المزايدات التي تؤدي إلى إضاعة الناس والتغطية على الحقائق.

***

من حقّ الناس أن يسألوا: لماذا انطلقت أوركسترا السياسيين، دفعة واحدة، في إثارة الضجيج حول ملفات الفساد، وهل ينطوي ذلك على شُبهات معينة؟ ومن هو الساحر الذي أوحى لـ54نائباً، من الكتل النيابية المختلفة على كل شيء، بأن يتفرَّغوا كلّهم في جلسة الثقة لملف واحدٍ هو الفساد؟

وما السرّ في الإيحاء المستمر بأن مؤسسات الرقابة سيتمّ تفعيلها، وبأن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء سيتمّ تأليفه، وبأن المجلس الدستوري الذي بتّ بالطعون النيابية بعد انتظار طويل سيواكب العمل التشريعي المكثَّف، المنتظر بين آذار وأيار، والذي يتضمَّن تنفيذ التزامات "سيدر"؟

***

براءة ذمّة...

بمعنى آخر، هل أرادوا أن يبعثوا ببراءة ذمَّة إلى الدول المانحة في مؤتمر "سيدر"، مفادها أن لبنان سيستجيب لشروط الإصلاح هذه المرّة، خصوصاً بعدما أصرّ البنك الدولي على الإشراف بنفسه على عمليات التنفيذ، لأن الثقة معدومة بالمسؤولين اللبنانيين؟

وهل سيعمد السياسيون اللبنانيون فعلاً إلى تنقية الإدارة اللبنانية وإثبات الشفافية بهدف استعادة الثقة الدولية المفقودة، والتي كان من تداعياتها خفض تصنيف لبنان السيادي إلى مستويات خطرة؟

ويا ليت قبل إثبات الثقة للدول المانحة، تثبتون هذه الثقة لنا نحن المواطنين التعساء، وسنقوم بالواجب عنكم.

اليوم يطلقون الوعد بإنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في آذار المقبل. ولكن، هل يصدِّق أحد بأن رئيساً أو وزيراً سيحاكم؟ وهل سيبدأون بأنفسهم مثلاً، أم بالعهود المتتالية ، مروراً بكل رؤساء الجمهورية والحكومات والمجالس والوزراء؟

***

بدل الصراخ العبثي في ملفات الفساد، الأحرى بهم أن يقوموا بتسمية فاسدٍ واحدٍ ومحاسبته وإعادة مال الدولة إلى الدولة. فهل نصدِّق مثلاً أن مَن لا يستطيع محاسبة متعهِّد "مدعومٍ" في ملف النفايات، أو في ملف الكهرباء، ويعجز عن ضبط أبسط المخالفات في ملف الفساد البيئي، سيكون قادراً أو راغباً في محاسبة رؤساء ووزراء؟!

لن نصدِّق كلام التصدّي للفساد إلاّ عندما نرى بأم العين أن مرتكبين وفاسدين جرى توقيفهم ومحاسبتهم وإعادة المال المسروق إلى الدولة المديونة!

***

الناس يعرفون الأمور، حتى من دون الحاجة إلى تحقيقات وفذلكات قانونية، ولكن لا حَول لهم ولا قوة. فهم يرَوْن الشخص الذي انتخبوه نائباً أو جرى توزيره، وقد كان "على قدّ حاله"، فإذا بالثراء والوجاهة يظهران عليه بقوةٍ، فيبني القصور ويقتني اليخوت والطائرات والشركات. ولا أحد يسأله: مِن أين لك هذا؟

وقانون "من أين لك هذا"موضوع على الرفّ، وهو مجرد قانون لا قيمة تنفيذية له، شأنه شأن كل قوانين الرقابة والمحاسبة التي جرى تعطيلها أو تسخيف عملها، من أجل إستباحة الدولة ومؤسساتها.

***

أهلاً بكم في لبنان، جمهورية الفساد السعيد والفاسدين السعداء، حيث الجميع يضجّون بملفات الفساد، ولكن ليس هناك فاسدٌ واحدٌ تتم تسميته وتوقيفه.

أهلاً بكم في جمهورية الفساد المنظّم، حيث فتح ملفات الفساد يتم استنسابياً وعند الحاجة من أجل تنفيس الاحتقان لا أكثر…

أهلاً بكم حيث الفساد "موضة"موسمية، ولكن لا ثمار حقيقية تُرتجى منها.

حملة الفساد عندنا تشبِه القصة المثارة حول هرّة مصمّم الأزياء لمؤسسة شانيل العالمية لصاحبها كارل لاغرفيلد الراحل عن هذه الدنيا حديثاً. فقد ضجَّ الإعلام العالمي بثروة تناهز الـ200مليون دولار ورّثها لهرّتِهِ "المحزونة" عليه... ولكنها في النهاية ليست سوى هرّة!

فمن هو الوريث الحقيقي؟