لم يتردّد وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو​ بالحديث من ​الكويت​ عن ضرورة تشكيل "تحالف إستراتيجي" لدول ​الشرق الأوسط​ أو "ناتو عربي"، مُعتبرًا أنّ الجميع يُواجهون "نفس التهديدات"، وفي طليعتها تهديد "الجمهوريّة الإسلاميّة في ​إيران​". ثم لم يتردّد الوزير الأميركي من ​إسرائيل​ بتأكيد إلتزام بلاده الكامل بأمن إسرائيل في مُواجهة ما نعته بصفة "العدوان الإيراني"، وبالحديث عن ضرورة وقف ما أسماه "عمليّة التدمير الإقليمي" التي ترتكبها إيران. فماذا عن مُحادثاته في ​لبنان​، والأهمّ ماذا سيحصل بعد هذه الزيارة؟.

بداية لا بُد من التذكير أنّ وتيرة زيارات كبار المسؤولين الأميركيّين-ومن بينهم بومبيو بطبيعة الحال، إلى الشرق الأوسط، إرتفعت بشكل واضح خلال المرحلة الأخيرة، وتحديدًا منذ أن قرّر الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ قلب الطاولة على "الإتفاق النووي" مع إيران. وخلال زيارته الأحدث إلى المنطقة، ركّز بومبيو في الكويت–بحسب ما تسرّب من معلومات، على ضرورة العمل على إنهاء الصراع في ​اليمن​، وعلى ضرورة طيّ صفحة الخلافات العربيّة–العربيّة، لا سيّما منها الخلاف بين السعوديّة وقطر، للتفرّغ لمُواجهة المخاطر المُشتركة المُتمثّلة بالتمدّد الإيراني إقليميًا، على الصعيدين السياسي عبر دُول وقوى مُؤيّدة لها، والأمني عبر ميليشيات مُموّلة ومُسلّحة من جانب ​طهران​، وكذلك عبر تهديدها الصاروخي الذي يطال العديد من عواصم المنطقة(1). أمّا في إسرائيل، فإنّ بومبيو أعطى بشكل غير مُباشر رئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​، دعمًا معنويًا كبيرًا عشيّة الإنتخابات الإسرائيليّة التي ستجري في التاسع من نيسان المقبل.

وبالنسبة إلى مُحاثات بومبيو في ​بيروت​، فهي لن تشمل الحديث عن ضرورة إنخراط لبنان في تحالف عربي إقليمي، ولا عن ضرورة الإصطفاف بمُواجهة إيران، بسبب تواضع ثقل لبنان في المنظومة الإقليميّة أساسًا، وبسبب رفض لبنان الرسمي التموضع في محاور مُتواجهة بهذا الشكل العلني والمُباشر. لكنّ هذه المحادثات ستتطرّق إلى مواضيع حسّاسة ودقيقة، أبرزها:

أوّلاً: ضرورة الحفاظ على الهدوء على الحُدود البريّة الجنوبيّة، وضرورة التقيّد بالقرارات الدَولية في هذا المجال، وعدم خرقها.

ثانيًا: ضرورة عدم القيام بأي خُطوات إستفزازية في ملفّ إستخراج ​النفط والغاز​ من ​المياه​ الإقليميّة اللبنانيّة، وتحديدًا في البلوكات المُحاذية لبلوكات تعمل فيها إسرائيل، وفي طليعتها البلوك رقم 9.

ثالثًا: ضرورة عدم تصرّف لبنان بشكل أحادي في ملفّ ​النازحين​، والتنسيق مع المُجتمع الدَولي ومع الجهات الدَوليّة المَعنيّة، تجنّبًا لأيّ خُطوات غير مدروسة سترتدّ سلبًا على التسوية النهائية الخاصة ب​سوريا​.

رابعًا: ضرورة تقيّد لبنان بالعُقوبات الأميركيّة المَفروضة–وكذلك تلك التي ستُفرض في المرحلة المُقبلة، على إيران، وعلى "​حزب الله​"، لا سيّما منها العُقوبات الإقتصاديّة والمالية التي تشمل بالتحديد تعاملات وتحويلات ​المصارف​.

خامسًا: ضرورة عمل السُلطات الرسميّة اللبنانية، إن الأمنيّة أو السياسيّة، على ضبط نُفوذ وتصرّفات "حزب الله"، وعلى منعه من الإستئثار والإستفراد بأي قرارات تخصّ الدولة اللبنانيّة، ومنعه بالتالي من خرق القوانين اللبنانيّة والدَوليّة.

ولا شكّ أنّ مطالب بومبيو لن تكون محلّ ترحيب من قبل الجانب اللبناني الرسمي، علمًا أنّ بعض المسؤولين في لبنان ينوون مُواجهته بمطالب مُعاكسة مُضادة، تُعيد الكرة إلى الملعبين الأميركي والإسرائيلي، مع التشديد على ضرورة إحترام ​واشنطن​ للخيارات اللبنانية، سُلطة وحُكومة وشعبًا. وبالتالي، الثقل الأكبر لن يكون خلال مُحادثات بومبيو في لبنان–على أهميّتها، إنما في إرتدادات ما بعد الزيارة، وما بعد تحديد المواقف والخيارات بشكل دقيق وواضح من قبل كل من ​أميركا​ ولبنان على حدّ سواء. فإذا كان لبنان حريصًا على إعتماد ​سياسة النأي بالنفس​ إلى حدّ ما، وسياسة مُستقلّة نوعًا ما بعيدًا عن المحاور والإنقسامات والصراعات الإقليميّة والدَوليّة، فإنّ ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة تنوي التعاون مع دُول المنطقة في المرحلة المقبلة من مُنطلق "إمّا معنا أو ضدّنا"، الأمر الذي سيضع لبنان في موقف مُحرج مُستقبلاً، وتحديدًا عند إشتداد الخناق الأميركي على إيران، علمًا أنّ هذا الخناق آخذ بالإشتداد حول "حزب الله" أيضًا. ولعلّ صلة الوصل الحاليّة بين لبنان من جهة والولايات المتحدة الأميركيّة من جهة ثانية، تتمثّل في ​الجيش اللبناني​، ولوّ أنّ قيادة هذا الأخير تحرص على الإبتعاد عن أيّ مسائل سياسيّة، وتحصر تعاونها بالشقّ العسكري الصرف، بما يخدم مصلحة الجيش العليا وبرامج تدريبه وتسليحه.

في الخُلاصة، ستمرّ زيارة بومبيو إلى لبنان–كما سبق أن مرّت العديد من الزيارات لمسؤولين أميركيّين آخرين إلى بيروت، بغضّ النظر عن الضجّة الإعلاميّة الصاخبة التي سترافقها، وعن الإعتراضات التي ستلحق بها من جانب بعض القوى الداخليّة. لكنّ الأكيد أنّ الأنظار ستكون مشدودة إلى واشنطن خلال مرحلة ما بعد الزيّارة، لمعرفة كيفيّة تلقّف الإدارة الأميركيّة للموقف اللبناني الذي يُحاول التمايز والتهرّب من أيّ إلتزامات إزاء الإدارة الأميركيّة، وإزاء مشاريعها السياسيّة للمنطقة، وبالتالي لتبيان نوعية الضُغوط التي سيُضطرّ لبنان لتحمّلها تبعًا لذلك.