نالت زيارة رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​ إلى ​العراق​ إهتماماً واسعاً، تفوق ما ركّزت عليه حملة التواصل الإجتماعي التي نظّمها أنصار حركة "أمل" والتي تمحورت حول إظهار الإلتزام بالعقيدة والإنتماء المذهبي الديني وحجم الترابط بين الحركة والنجف، والتركيز على نوعية العلاقة المميزة بين بري ومرجعية ​الشيعة​ العرب. قد تكون الحملة الإعلامية وليدة تصرفات تلقائية عفوية لأنصار بري الناشطين في جيش إلكتروني جرّار، أو تكون ترجمة لإشارة قيادة الحركة، لإظهار مدى تميّز علاقة بري الخاصة بمرجعية النجف، من خلال توزيع مشاهد لقاءاته الحارة بجميع المراجع الدينية في المدينة المقدّسة شيعياً، وخصوصاً مع السيد ​علي السيستاني​، وزياراته المقامات الخاصة بالأئمة عند الشيعة.

لكن ما خُفي في أبعاد الزيارة كان الأهم، لجهة ما تداول بري به مع قيادات العراق السياسية والدينية، فتزامنت إجتماعاته مع خطوات سعوديّة نحو بغداد، عبر اتجاهين: تقديم الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز مبلغ مليار دولار للعراق لبناء مدينة رياضيّة، ووصول وفد وزاري كبير ورفيع المستوى الى بغداد لترسيخ التعاون بين العراق والمملكة العربية السعوديّة.

كان سبق تلك الخطوات الخليجيّة كلام لرئيس المجلس النيابي ال​لبنان​ي في اللقاءات الخاصة والعامة والتصريحات الإعلاميّة يطلب فيها من العراقيين لعب دور الوسيط في المنطقة، لتقريب المسافات بين طهران والرياض. ما يعني أنّ مهمة بري الأساسيّة تكمن في طرح معادلة الوسطيّة والوساطة الشيعيّة في لحظة التموضعات الإقليميّة الحسّاسة. لم يكن كلام بري جديداً، لكنه شرح للمسؤولين العراقيين أهمية هذا الدور الوسطي للحفاظ على ادوار الشيعة العرب، نتيجة ما يتعرضون له من موجات تكفير وحصار سياسي وإقتصادي خطير.

لم تمضِ ساعات على حثّ رئيس المجلس النيابي الفريق العراقي على سلوك هذا الدرب السياسي الوسطي المعتدل في المنطقة، أسوة بما يفعله بري نفسه في لبنان وتجاه الدول العربية، حتى حطّ في بغداد سبعة وزراء سعوديين لترسيخ التعاون المشترك بين المملكة والعراق، سبقهم مبلغ مليار دولار كهديّة من الملك سلمان بن عبدالعزيز الى العراقيين لبناء المدينة الرياضية، فتزامنت الخطوتان مع الزيارة اللبنانية.

بالنسبة الى غالبية الشيعة العراقيين واللبنانيين، فإن خيار بري هو الأنسب بعد تجارب سلكت فيها المنطقة خلال سنوات مضت طرق المذهبية والتطرف والنزاع المفتوح، ولم تُسفر جميع تلك السُبل الاّ عن مزيد من الحروب والتوتر والهجرات والآلام الإقتصادية.

لكن خطوة النجف-بري هي ليست ضد خيارات طهران، لا دينياً ولا سياسياً، ولا هي إنحياز الى جانب السعودية، بل تأتي لتؤازر الإيرانيين والسعوديين معاً في إخراجهم من عنق الزجاجة، بعدما أكدت صراعات سوريا واليمن والتنافس في البحرين والعراق ألاّ جدوى للنزاع بين قطبين إسلاميين كبيري . ولو أجرت طهران والرياض إستطلاعات آراء شعبيهما لتبيّن انهما يريدان الحلول بعدما دفع البلدان بشكل باهظ ثمن الحروب غير المباشرة التي تورطا بها.

لذلك تظهّرت زيارة بري للعراق على انها تاريخيّة، فثبّتت النجف حركة "أمل" مرجعية سياسيّة شيعيّة عربيّة بقيادة بري، ورسّخ برّي إلتزام الحركة بمرجعية النجف الدينية نهائياً دون أي تراجع، لتبدأ الآن الإندفاعة في ترجمة سيناريوهات الإعتدال الشيعي المنفتح على السنّة من الرياض إلى الأزهر في مصر، مع الحفاظ على الإنسجام مع مرجعية قم ودور طهران في التكاملية لا الصراعية الشيعية.

حصد بري نتائج زيارته إلى العراق فوراً مستنداً بالأساس إلى ثقة إيرانيّة به غير قابلة للإهتزاز، فصارت الحاجة الشيعيّة إلى دور بري اكبر من أيّ وقت مضى. ما يرجّح أن يقوم تنسيق عملي عراقي-"أملي" لمحاولة فتح الأبواب الموصدة بين الرياض وطهران، وبين دمشق وعواصم خليجية، وبين الأميركيين والإيرانيين.

واذا كانت الخطوات المتوقعة غير مضمونة النتائج، فإنّ المحاولة بحدّ ذاتها تعزّز من دور الشيعة العرب في لعب دور الوساطة الإيجابيّة، كما كان يفعل الإمام ​موسى الصدر​ في سبيعينات القرن الماضي، خصوصاً أنّ اللعبة الميدانية إستُنفِذَت بعد ثماني سنوات من الأزمة المفتوحة، وحان دور المرجعيّة الشيعيّة الدينيّة في النجف والسياسيّة في بيروت وبغداد للتدخل في رسم معالم المرحلة المقبلة، بموافقة "​حزب الله​" وطهران اللذين يثقان برئيس المجلس النيابي اللبناني، ويتكاملان معه، ويسلّمان برؤيته الإستراتيجيّة دون نقاش أحياناً، وهو لم يستفزّهما يوماً منذ تسعينيات القرن الماضي، ولم يشاكس دورهما، بل ينطلق من ذات المسلّمات السياسيّة التي يؤمنان بها، إلى درجة أن دور بري صار مطلباً للإيرانيين المنفتحين على حوار مع كل العواصم العربيّة. لذلك، يُتوقع ان يقوم بري بجولة قريبة تحمله من الرياض الى القاهرة مجدداً وطهران، وقد يمرّ بدمشق وعمّان أيضاً، وصولاً الى موسكو التي دعته مراراً لزيارتها لكنه رفض الذهاب الى ​روسيا​ ما لم يلتقِ رئيسها ​فلاديمير بوتين​، لأنّ البروتوكول الروسي ينص على لقاء رؤساء المجالس النيابيّة في العالم فقط مع رؤساء الدوما.